عولمة الهُوية الثقافية العربية

آفاق فكرية (11)

د. يحيى الرِّيامي

إنَّ العلاقة بين العولمة والهوية الثقافية في التنافر والتصادم والصراع؛ إذ تسعى العولمة لخلق وحدة ومنظومة متكاملة، في حين تدافع الهوية عن التنوع والتعدد، كما نجد العولمة تهدف للقضاء على الحدود والخصوصيات المختلفة، بينما تسعى الهوية للاعتراف بعالم الاختلافات وترفض الذوبان. وباختصار، فالعولمة تبحث عن العام والشامل، بينما الهوية هي انتقال من العام إلى الخاص، ومن الشامل إلى المحدود.

ومن المظاهر المألوفة في الوقت الراهن، وما يجسد عولمة الثقافة وتأثير العولمة على ثقافات المجتمعات الأخرى، هو الانتشار الواسع والكبير لشركة "كوكا كولا" ومطاعم "الهامبورجر" "وماكدونالدز"، وهذه الأخيرة تعتبر واحدة من أكبر المطاعم التجارية الأمريكية، وهي رمز الإمبريالية الرأسمالية الأمريكية؛ فهذه العلامات التجارية تقدم وجبات سريعة لا تتيح للزبائن الجلوس لفترات طويلة، ومن هنا انتقلت من كونها نظاما لبيع الطعام السريع إلى نمط حياة؛ وذلك من خلال نظامها الذي قضى على العلاقات البشرية التي لم تعد بين الإنسان وأخيه بمفهوم التفاعل المباشر، بل هي محكومة بقضايا مادية؛ مما تسبب في اختفاء الحميمية في العلاقات، كما نجد كذلك في وسائل الاتصال والإعلام التي أسهمت بشكل كبير في انتشار العولمة في المجال الثقافي، وتتجلى هذه المساهمة في القنوات التليفزيونية والفضائية، وبما تسمى في قتنا الحاضر بوسائل التواصل الاجتماعي (الكارثي)، التي بواسطتها يتم بث أفلام ومسلسلات وموسيقى وصور..وغيرها من الأمور المشروعة وغير المشروعة، تمثل سلوكيات العنف والجنس بشكل إباحي..وغيرها الكثير من اللاخلاقيات يتناقض مع العفة في المجتمعات العربية المحافظة.

العولمة هي أيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم، وهي نظام عالمي يشمل عدة قطاعات مهمة في الحياة؛ مثل: المال والاقتصاد والاتصالات والساسة والفكر والأيديولوجيا. كذلك تعني العولمة الحالية المجال السياسي المنظور له من الزاوية الجغرافية (الجيوبولتيك)، أي بمعنى العمل الجاد على تعميم نمط حضاري معين لبلد ما (الولايات المتحدة) على بقية دول العالم. (ليست العولمة مجرد آلية من آليات التطور "التلقائي" للنظام الرأسمالي، بل إنها أيضا وبالدرجة الأولى دعوة لتبني نموذج معين. وبعبارة أخرى، فالعولمة إلى جانب أنها تعكس مظهرا أساسيا من مظاهر التطور الحضاري الذي يشهده عصرنا، هي أيضا أيديولوجيا تعبر بصورة مباشرة عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته. وقد حددت وسائلها لتحقيق ذلك في عدة أمور أولاً: استعمال السوق العالمية أداة للإخلال بالتوازن في الدول القومية في نظمها وبرامجها الخاصة بالحماية الاجتماعية. ثانياً: اتخاذ السوق والمنافسة التي تجري فيها مجالا لـ"الاصطفاء"، بالمعنى الدارويني للكلمة، أي وفقا لنظرية داروين في "اصطفاء الأنواع والبقاء للأصلح"، وهذا يعني أن الدول والأمم والشعوب التي لا تقدر على "المنافسة" سيكون مصيرها، بل يجب أن يكون مصيرها الحتمي الانقراض. ثالثاً: إعطاء كل الأهمية والأولوية للإعلام لإحداث التغييرات المطلوبة على الصعيد المحلي والعالمي؛ باعتبار أن "الجيوبوليتيك"، أو الجغرافيا السياسية، وبالتالي الهيمنة العالمية، أصبحت تعني اليوم مراقبة "السلطة اللامادية"، سلطة تكنولوجية الإعلام التي ترسم اليوم الحدود في "الفضاء السايبرنت": حدود المجال الاقتصادي السياسي التي ترسمها وسائل الاتصال الإلكترونية المتطورة. وهكذا فبدلا من الحدود الثقافية الوطنية والقومية تطرح أيديولوجيا العولمة "حدودا" أخرى غير مرئية ترسمها الشبكات العالمية قصد الهيمنة على الاقتصاد والأذواق والفكر والسلوك.

ويُعلِّق الكاتب والمفكر العربي الكبير محمد عابد الجابري على وضع الثقافة العربية الحالي في أحد المقالات العلمية، فيقول: الثقافة العربية تعاني منذ ما يقرب من قرنين وضعا متوترا نتيجة احتكاكها مع الثقافة الغربية بتقنياتها وعلومها وقيمها الحضارية التي هي نتيجة تطور خاص قوامه التحديث والحداثة. ومن هنا، تلك الثنائية التي تطبع الثقافة العربية بمختلف مستوياتها المادية والروحية، ثنائية التقليدي والعصري، وهي ثنائية تكرس الازدواجية والانشطار داخل الهوية الثقافية العربية بمستوياتها الثلاثة: الفردي والجمعي والوطني القومي، وأحد طرفي هذه الثنائية يعكس الهوية الثقافية على صورة "جمود على التقليد" ضمن قوالب ومفاهيم وآليات دفاعية تستعصي على الاختراق وتقاوم التجديد، والآخر يجسد الاختراق الثقافي، وقد اكتسح الساحة اكتساحا ليتحول إلى ثقافة الاختراق؛ أعني الثقافة المبشرة به المكرسة له.

ويضيف: في هذا الإطار إذن يجب أن نضع خصوصية العلاقة بين العولمة والهوية الثقافية، عندما يتعلق الأمر بالوطن العربي؛ فالاختراق الثقافي الذي تمارسه العولمة لا يقف عند حدود تكريس الاستتباع الحضاري بوجه عام، بل إنه سلاح خطير يكرس الثنائية والانشطار في الهوية الوطنية القومية، ليس الآن فقط بل وعلى مدى الأجيال الصاعدة والقادمة؛ ذلك أنَّ الوسائل السمعية البصرية المرئية واللامرئية التي تحمل هذا الاختراق وتكرسه إنما تملكها وتستفيد منها فئة معينة هي النخبة العصرية وحواشيها؛ فهي التي تستطيع امتلاكها والتعامل مع لغاتها الأجنبية بحكم التعليم "العصري" الذي تتلقاه، أما "عموم الشعب" وعلى رأسه النخبة التقليدية فهو في شبه عزلة يجتر بصورة أو بأخرى ثقافة "الجمود على التقليد" والنتيجة استمرار إعادة إنتاج متواصلة ومتعاظمة للثنائية نفسها ثنائية التقليدي والعصري ثنائية الأصالة والمعاصرة في الثقافة والفكر والسلوك.

ويؤكِّد الكاتبُ أنَّ حاجتنا لتجديد ثقافتنا وإغناء هويتنا والدفاع عن خصوصيتنا ومقاومة الغزو الكاسح الذي يمارسه على مستوى عالمي إعلاميا؛ وبالتالي أيديولوجيا وثقافيا، المالكون للعلم والتقنية المسخرون لهما لهذا الغرض لا تقل عن حاجتنا إلى اكتساب الأسس والأدوات التي لا بد منها لممارسة التحديث ودخول عصر العلم والتقنية دخول الذوات الفاعلة المستقلة، وليس دخول "الموضوعات" المنفعلة المسيرة. نحن في حاجة للتحديث أي إلى الانخراط في عصر العلم والتقنية كفاعلين مساهمين، ولكننا في حاجة كذلك لمقاومة الاختراق وحماية هويتنا القومية وخصوصيتنا الثقافية من الانحلال والتلاشي تحت تأثير موجات الغزو الذي يمارس علينا وعلى العالم أجمع بوسائل العلم والتقنية الحديثة، وليست هاتان الحاجتان الضروريتان متعارضتين كما قد يبدو لأول وهلة، بل بالعكس هما متكاملتان، أو على الأصح متلازمتان، تلازم الشرط مع المشروط؛ ذلك لأنه من الحقائق البديهية في عالم اليوم أن نجاح أي بلد من البلدان النامية منها أو التي هي في "طريق" النمو نجاحها في الحفاظ على الهوية والدفاع عن الخصوصية مشروط أكثر من أي وقت مضى بمدى عمق عملية التحديث الجارية في هذا البلد عملية الانخراط الواعي النامي والمتجذر في عصر العلم والتقنية.

والوسيلة في كلِّ ذلك واحدة: اعتماد الإمكانيات اللامحدودة التي توفرها العولمة نفسها أعني الجوانب الإيجابية منها وفي مقدمتها العلم والتقنية، وهذا ما نلمسه بوضوح في تخطيطات الدول الأوروبية التي يُدَق في كثير منها ناقوسُ خطر "الغزو الأمريكي" الإعلامي الثقافي الذي يتهددها في لغتها وسلوك أبنائها وتصوراتهم الجمعية، والذي يوظف أرقى وسائل العلم والتقنية -ومنها الأقمار الصناعية- في اكتساح مختلف الحقول المعرفية والخصوصيات الثقافية.

... إنَّ أوروبا اليوم تتحدَّث حديث الخصوصية والأصالة، وتتحدث عن "الهُوية الأوروبية" تعزيزا لسيرها الجدي على طريق تشييد الوحدة بين شعوبها وأقطارها بخطوات عقلانية محسوبة في إطار من الممارسة الديمقراطية، وهي بذلك تقدم لمستعمراتها القديمة لأقطار العالم الثالث كله نموذجا صالحا للاقتداء به بعد ملاءمته مع الخصوصيات المحلية.

إن جُلَّ الحكومات العربية إنْ لم يكن جميعها تَسْعَى اليوم لتحقيق "الشراكة" مع أوروبا، الشراكة في مجال الاقتصاد وأيضا في مجال الثقافة، ومع أن هذه الشراكة المطلوبة تمليها على الجانبين ظرفية تحكمها المصالح القومية، فإنه لا شيء يضمن تحولها إلى عولمة أخرى داخل العولمة الكبرى -غير شيء واحد- هو بناء الشراكة في الداخل كما في الخارج على الديمقراطية والعقلانية.

فهل للشعوب العربية أن تطالب بالشراكة مع أوروبا في مجال اعتماد العقلانية والديمقراطية في الفكر والسلوك في التخطيط والإنجاز في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة؟ العولمة نظام والنظام لا يقاوم من خارجه إلا بنظام مكافئ له أو متفوق عليه، ونحن في العالم العربي نعيش حالة اللانظام ليس لدينا نظام عربي يكافئ النظام العالمي للعولمة، فلا سبيل إذن إلى مقاومة سلبيات العولمة إلا من داخل العولمة نفسها بأدواتها وبإحراجها في قيمها وتجاوزاتها، وأيضا بفرض نوع من النظام على الفوضى العربية القائمة فوضى اللانظام.

- أطروحة الدكتوراة "الملكية الفكرية والحماية القانونية للمعارف التقليدية الموروثة.. التحديات والحلول".

 

y9339@hotmail.com

 

* خبير في شؤون الملكية الفكرية