تأثر التنوع الثقافي بالكونية والعولمة

د. يحيى بن عيسى الريامي

خبير في شؤون الملكية الفكرية

إن العالم يعيش تحت وطأة عولمة اقتصادية ليبرالية الطبيعة والتوجه، وبتأثير طفرة تكنولوجية كبرى قوضت إلى حد بعيد ثنائية الزمن والمكان تماما كما قوضت العولمة ثوابت الحدود الوطنية بمفهومها الواسع. ولئن أضحت معظم الأسواق شديدة الارتباط ببعضها البعض خالقة بذلك فضاء اقتصاديا عالميا تنتظم بصلبه مختلف تيارات السلع والخدمات، فإن تكنولوجيا المعلومات وشبكات الاتصالات قد خلقت فضاء افتراضيا كونيا تنتقل شتى أشكال الرموز والبيانات بداخله في زمن آني ودونما رادع جغرافي أو سياسي يذكر. والواقع أن جنوح العولمة والكونية إلى استنبات معتقدات وتصورات وقيم السوق ضخم الفضاءات العالمية، وهذا الجنوح لا يقدم فقط في كونه تهديدا للقيم والأساسيات التي تؤسس للهويات الثقافية بل وبالأساس في كونه توجها بجهة وأد مبدأ التنوع الثقافي باعتباره شرطا من شروط بقاء الجنس البشري.

التنوع الثقافي إذن في محك حقيقي مع العولمة والكونية وإن كان ذات المحك نسبيا فيما يتعلق بالشبكات الإلكترونية والتكنولوجيا المعلوماتية، واللغة هي الأداة التي يتمظهر من خلالها المخزون الثقافي لكل مجتمع ولكل مجموعة بشرية، وهي الوعاء الذي باقتنائه تجد الممارسات الثقافية تجسيدها وصورتها وعبرها تتنقل الرموز والأفكار والتمثلات التي يكون الأفراد عن ذواتهم، عن المحيط وعن العالم من حولهم، وأن اندثارها أو انقراضها أو تراجع مفعولها إنما هو اندثار وانقراض وتراجع لمفعول الثقافة التي تعتبر اللغة الناطق باسمها والمعبر عن رمزيتها.

إنّ صيانة التنوع الثقافي، في ظل الكونية والعولمة وتزايد تيارات السلع المادية واللامادية العابرة للحدود لا ينحصر فقط (ولا يجب أن ينحصر) في المحافظة على التنوع الطبيعي للثقافة بين مجتمع وآخر وبين مجموعة بشرية وأخرى، بل ويجب أن يتعدى ذلك المحافظة على البنى التحتية الأساسية التي هي حامل ذات التنوع ورافعته الموضوعية.

التنوع الثقافي والاختلاف

إن عصرنا اليوم هو عصر الاختلاف دون منازع، فنحن نمدح الاختلاف ونقرظه، ونطالب بحق الاختلاف ونناضل من أجله، غير أن الحضور الدائم لكلمة الاختلاف في منطوقنا اليومي وفي مختلف المنابر لا يعكس بالضرورة حضور فكرة الاختلاف في ظلّ واقع العولمة حيث تسيطر ثقافة واحدة، وحيث نلاحظ مواقف عنصرية ولا تسامح مع الاختلاف الثقافي. ما هو إذن شأن الاختلاف الثقافي اليوم؟ هل هو واقع فعلى معيش أم أنّ الاختلاف هو مجرّد كلمة أو شعار نتبجح بها في المنابر لتوشي الخطب؟

إنّ وراء تنوّع الثقافات توجد وحدة نفسية للإنسانية، إذ هنالك عناصر أساسيّة مشتركة للإنسانية والحضارات لا تقوم إلا بتركيب هذه العناصر المشتركة في تشكيلات مختلفة، ولذلك بين الثقافات البعيدة عن بعضها البعض تشابهات وهي تشابهات لا تُعزى بالضرورة إلى التواصل بين الحضارات خاصة إذا ما تبيّنا وجود حضارات يصعب تصور الاتصال فيما بينها نظرًا لانزوائها وتباعدها عن بعضها البعض مثلما هو شأن حضارة "الأنكا" في البيرو و "الداهومي" في إفريقيا. إنّه ليس هناك حضارة بدائية وأخرى متطورة، بل هناك إجابات مختلفة لمشكلات أساسيّة ومتماثلة وما يسميه العنصريون بالمتوحشين هم أيضًا يفكرون وفكرهم ليس أقل مرتبة من فكر الغربيين بل هو فقط فكر يشتغل بطريقة مختلفة عن فكر الغربيين، وهذا يعني أنّ الإنسانية تتطور في ضروب متنوعة من المجتمعات والحضارات، وهذا التنوّع الثقافي ليس مرتبطا بأي حتمية بيولوجية لأنّ التنوع البيولوجي ليس إلا تنوعا على مستوى آخر موازٍ للتنوع الثقافي خاصة وأنّ التنوع الثقافي يتميز عن التنوع البيولوجي من جهة كون التنوع الثقافي يعدّ بالمئات والآلاف في حين أنّ التنوع البيولوجي يُعدّ بالعشرات، وقدرة الثقافة على دمج هذا المجموع المركب من الاختراعات في الميادين المختلفة والذي نسميه حضارة يتناسب مع عدد واختلاف الثقافات التي تتشارك مع بعضها عن قصد أو عن غير قصد في تأسيس استراتيجية مشتركة وبالمقارنة بين اوروبا في عصر النهضة وأمريكا ما قبل "كولومبس" فأوروبا عصر النهضة كانت تمثل موضع تلاقي وصهر التأثيرات الأكثر تنوعا بدءا بالتقليد الروماني واليوناني فالجرماني والأنجلوسكسوني وصولا إلى التأثيرات العربية والصينية، في حين أنّ أمريكا ما قبل "كولومبس" لا تنعم بهذا التنوع بحكم عزلتها كقارة، وفي حين أنّ الثقافات التي كانت تتواءم في أوروبا تمثل نتيجة اختلافات قديمة تعود إلى ألفيات مما جعلها تحقق توازنا اجتماعيا فإنّ ثقافات أمريكا لم تكن متمفصلة بما فيه الكفاية وهو ربما ما يفسر انهيارها أمام حفنة من المستعمرين؛ ثم إن الحلف الثقافي في أمريكا ما قبل "كولومبس" كان مقاما بين أطراف أقلّ اختلافا.

إنّ التقاء الثقافات قد يؤدي إلى نتيجتين، فإمّا أن يؤدي إلى تصدّع وانهيار نموذج أحد المجتمعات وإمّا أن يؤدي إلى تأليف أصيل بمعنى ولادة نموذج ثالث لا يمكن اختزاله في النموذجين السابقين. وهذا يعني أنّه ليس هناك تلاق حضاري دون مستفيد والمستفيد الأول هي الحضارة العالمية التي لا تمثل حضارة متميزة عن الحضارات الأخرى ومتمتعة بنفس القدر من الواقعية وإنما هي فكرة مجردة. أمّا ما هو بصدد التحقق في إطار العولمة فليس إلا علامة التقهقر الإنساني والكوني، وإذا كانت الإنسانية تأبى أن تكون المستهلك العقيم للقيم التي أنتجتها في الماضي فإنّ عليها أن تتعلم من جديد أن كلّ خلق حقيقي يتضمّن نفيا ورفضا للقيم الأخرى لأننا لا نستطيع أن نذوب في الآخرين وأن نكون مختلفين في نفس الوقت والعصر الذهبي للخلق تحقق في ظلّ شروط الحد الأدنى من الاتصال، لأنّ هذا الحدّ الأدنى من الاتصال هو ما يدفع أطراف التواصل رغم البعد ودون أن يكون التواصل دائما وسريعا وهو الشكل الذي يضعف الاختلاف وأن العودة إلى الوراء غير ممكنة ولكن الوجهة التي تسير فيها الإنسانية وجهة العولمة تجعل الوضع الإنساني مشحونا ومولدا للحقد العرقي واللاتسامح الثقافي، فنحن الآن مهددون باحتمال تحولنا إلى مجرّد مستهلكين قادرين على استهلاك أي شيء من أية نقطة في العالم ومن أية ثقافة، والثمن دائما فقداننا لأصالتنا وقيمنا الإسلامية بأكملها، ويبدو إذن أنّ إفراط الاتصال هو ما يهدّد الإنسان لأنّه يهدّد التنوع والاختلاف المحفّز والمولّد للإبداع المحرز للتقدم، وبالتالي فإنّ عدم اعتبار الاختلاف يجعلنا نعتقد أنّ ما هو عادي بالنسبة إلينا هو كذلك بالنسبة لكلّ الناس ويجعلنا نعتقد أنّ معاييرنا الثقافية هي معايير كونية ويجعلنا نعتقد أن ما هو عادي بالنسبة إلينا هو أيضا طبيعي.

المرجع أطروحة الدكتوراة (الملكية الفكرية والحماية القانونية للمعارف التقليدية الموروثة.. التحديات والحلول).

[email protected]