دور اليونسكو والتنوع الثقافي

د. يحيى بن عيسى الريامي

 

خبير في شؤون الملكية الفكرية

 

المرجع أطروحة الدكتوراه (الملكية الفكرية والحماية القانونية للمعارف التقليدية الموروثة.. التحديات والحلول)

يشكّل التنوع الثقافي قوة محركة للتنمية، ليس على مستوى النمو الاقتصادي فحسب بل أيضاً كوسيلة لعيش حياة فكرية وعاطفية ومعنوية وروحية أكثر اكتمالاً، وهو ما تنصّ عليه اتفاقيات الثقافة السبع التي توفّر ركيزة صلبة لتعزيز التنوّع الثقافي، من هنا يُعتبر التنوع الثقافي ميزة ضرورية للحدّ من الفقر وتحقيق التنمية المستدامة. في الوقت عينه يساهم القبول بالتنوّع الثقافي والإقرار به عبر الاستعمال الإبداعي للإعلام وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات بشكل خاص في خلق الحوار بين الحضارات والثقافات وفي بلوغ الاحترام والتفاهم المتبادل. وقد تحوّل تعزيز التنوع الثقافي "التراث المشترك للبشرية" وفقاً للإعلان العالمي لليونسكو المتعلق بالتنوع الثقافي للعام 2001 – والحوار الناتج عنه إلى إحدى القضايا العصرية الأشد إلحاحاً، وبالتالي إلى قضية أساسية بالنسبة إلى ولاية المنظمة.

ومما لاشك فيه أن الثقافة تتخذ أشكالاً متنوعة عبر الزمان والمكان، وهذا التنوع يتجلى في أصالة الهويات المميزة للمجموعات والمجتمعات التي تتألف منها الإنسانية، وكذا في تعددها وتفاعله، ويتزايد تنوع هذه المجتمعات يوماً بعد يوم، مما يستدعي التفاعل المنسجم والرغبة في العيش المشترك بين الأفراد والمجموعات ذات الهويات الثقافية المتعددة والمتنوعة. وبالرجوع إلى إعلان اليونسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي نجده يشير إلى أن التعددية الثقافية هي الرد السياسي على واقع التنوع الثقافي، وحيث إن التعددية الثقافية لا يمكن فصلها عن وجود إطار ديموقراطي فإنها تيسر المبادلات الثقافية وازدهار القدرات الإبداعية التي تغذي الحياة العامة، وإذا كانت الحقوق الثقافية جزءا لا يتجزأ من حقوق الإنسان التي هي حقوق عالمية ومتكافلة فإنَّ من حق كل شخص أن يتمتع بالقدرة على التعبير عن نفسه والإبداع في كل المجالات، كما أنَّ له الحق في تعليم وتدريب جيدين يحترمان هويته الثقافية احتراماً كاملاً، فضلاً عن الحق في ممارسة تقاليده وأعرافه الثقافية الخاصة المميزة. إن إعلان اليونسكو عن التنوع الثقافي يكفل حرية التعبير وتعددية وسائل الإعلام والتعددية اللغوية والمساواة في فرص الوصول إلى أشكال التعبير الفني والثقافي والحضور الكامل في وسائل التعبير والنشر وهي مفاهيم وقيم تُعتبر في إطار القانون الدولي ضمانات للتنوع الثقافي.

لذلك فإنَّ كل إبداع ينهل من منابع التقاليد الثقافية لابد أن يزدهر بالاتصال مع الثقافات الأخرى، ويعتبر إحياء تراث الشعوب بمختلف أشكاله ونقله إلى الأجيال القادمة طريقًا لتغذية الإبداع الإنساني بكل تنوعه، والتحفيز على تأسيس حوار حقيقي وفعال وهادف بين الثقافات يخدم الأهداف الإنسانية ويساهم في إقرار ثقافة العدل والسلام والحوار بين الحضارات والأديان. إن المفهوم الدولي للتنوع الثقافي يؤكد على أن تهتم السياسات الثقافية لبلدان العالم بإتاحة الظروف المواتية لإنتاج ونشر صناعات وخدمات ثقافية متنوعة تكون لها القدرة على إثبات الذات على الصعيدين المحلي والدولي، ولذلك يعهد إلى كل دولة تحديد السياسة الثقافية التي ترجو من ورائها تنفيذ إسهامها الطبيعي في التنوع الثقافي.

وتعرف مجموعة من الدول الرأسمالية المتحكمة في الاقتصاد العالمي نموا كبيرا جعلها تبحث عن مصادر وأسواق جديدة مما يجعل حدودها الاقتصادية تمتد إلى ربط مجموعة من العلاقات مع دول نامية لكن الشيء غير المرغوب فيه هو أنَّ هذه الدول المتطورة على جميع المستويات الفكرية والثقافية والعلمية دخلت في هوية الدول الأخرى إلا أنها حافظت على هويتها الثقافية، خاصة وأن العولمة لم تقتصر فقط على البعد المالي والاقتصادي بل تعدت ذلك إلى بعد حيوي ثقافي متمثل في مجموع التقاليد والمعتقدات والقيم، كما أن العولمة لا تعترف بالحدود الجغرافية لأي بلد بل جعلت من العالم قرية صغيرة. فهل تلقى الهوية الثقافية للدول الأخرى الاحترام اللائق من الدول الرأسمالية التي لا يهمها إلا الزيادة في رأس المال والربح، ما مظاهر وآليات عولمة الثقافة؟ وهل لقيت هذه المظاهر قبولا من طرف الدول النامية. (الهوية) إنها كالبصمة للإنسان يتميز بها عن غيره. وتُعرّفُ الهوية أيضًا بمعنى "التفرّد"، فالهوية الثقافية تعني التفرّد الثقافي بكل ما يتضمنه معنى الثقافة من عادات وأنماط سلوك وميل وقيم ونظرة إلى الكون والحياة. إن مفهوم "الهوية" لا يجب أن يؤخذ بالبساطة العفوية، إذ لا يزال يلفّه الكثير من الغموض، فهناك من المفكرين من يصل به الأمر إلى حدّ القول بأن الهوية لا وجود لها أصلا، ذلك أن الهوية الشخصية تفترض أن يبقى الإنسان نفسه على مرّ الزمن، أمّا الهوية الجماعية فهي أكثر إشكالية، الهوية الجماعية تفترض (التماثل التام) في النحن الجماعية بينما البشر مختلفون تبعا لطبيعة الظروف التي تكوّنوا في إطارها وتبعا للبيئة التي يعيشون فيها ومكوناتها الحضارية والثقافية والاجتماعية وهذا ما عبّر عنه الفيلسوف الفرنسي ديول ريكور بالقول: "... إن أهواء الهوية متجذّرة فينا بعمق وليس هناك أي شعب يعاني منها أكثر من شعب آخر".

[email protected]