في حضرة مهاتير محمد

 

د. سليمان المحذوري

قُدّر لي أن أحظى بلقاء رئيس وزراء ماليزيا الأسبق مهاتير محمد وجهاً لوجه في المركز الثقافي بجامعة السلطان قابوس المكان الذي احتضنني كطالب بكالوريوس ثم ماجستير لاحقاً؛ وذلك يوم الثلاثاء بتاريخ 9 مايو. وبالنسبة لي كان اللقاء أشبه بتحقيق حلم طالما راودني طويلاً على اعتبار أنّ صيت هذا الرجل قد عانق السحاب كمُلهم لماليزيا- إحدى النمور الآسيوية- ومهندس نهضتها الحديثة، وعلى اعتبار أنّي قضيت أربع سنوات في هذا البلد بداعي الدراسة وبالتالي لمست عن قرب ما يتحدث عنه كشاهد عيان.

ومن وجهة نظري أنّ مثل هذه اللقاءات تُعتبر جد مهمة؛ وذلك من أجل بثّ الوعي وتنوير المجتمع بكافة شرائحه من قيادات في مختلف القطاعات، وأكاديميين، وطلبة، وإعلاميين وقطاع كبير من الجمهور بأهمية الأفكار البنّاءة كالتي تبناها معالي الضيف، وكانت كفيلة بتوصيل بلده إلى ما عليه الآن من تطور وتقدّم.

  فطوال عقدين من الزمان وهي الفترة الزمنية التي شغل فيها مهاتير محمد منصب رئاسة الوزراء من بداية الثمانينيات وحتى أوائل هذه الألفية بدا واضحاً أين كانت ماليزيا وأين أضحت ثم ترك المنصب بمحض إرادته قبل أن يُجبر على تركه على حد تعبيره مُفسحاً المجال أمام قيادات أخرى تُكمل المشوار، وتحقيق ما لم يتحقق في عهده. من هنا؛ يتضح لنا جلياً أهمية إعداد الصف الثاني بل والثالث من القيادات الأمينة التي يمكنها متابعة تنفيذ الخطط المعدة؛ إذ أنّه من غير الممكن أن تكون هنالك خطة استراتيجية بدون ضمانات لوجود كفاءات قادرة على تنفيذها على أرض الواقع ومراجعتها باستمرارها وفقاً للمتغيرات السياسية والاقتصادية وغيرها. كما عرّج الضيف الكريم على نقطة هي غاية في الأهمية كما أحسب؛ إذ أثناء زيارته لليابان في ستينيات القرن الماضي لاحظ أنّ الياباني يتحلى بقيم أعلى من غيره فيما يتعلق بتقديس العمل والتفاني فيه والانضباط واحترام النظام، وبالتالي كانت إنتاجيته عالية؛ الأمر الذي انعكس على اليابان رغم خروجها متأثرة بهزيمتها في الحرب العالمية الثانية وتدمير مدينتي هيروشيما ونجازاكي بالقنبلة النووية، كما أنّ موارد اليابان محدودة إلا انّها آمنت بالإنسان الياباني وبقدراته وإمكاناته، ومن خلال التعليم والتدريب كسبت الرهان وأصبحت اليوم دولة صناعية كبرى على مستوى العالم. وبالتالي فإنّ السلطنة بما تحتويه من موارد طبيعية متنوعة، إلى جانب الثروة البشرية وما يتمتع به العُماني من صفات قيميّة تؤهله أن يقوم بالدور ذاته وربما يفوقه إذا ما وجد الفرصة المناسبة مع تهيئة البيئة من حوله. وبالتالي فإنّه يُمكن الاشتغال على موضوع المنظومة القيمية في مجتمعنا منذ مرحلة الطفولة بخطة مُحكمة تُشارك في تنفيذها جهات عدة كالمدارس والإعلام والمساجد وما إلى ذلك.

في المُجمل السلطنة ولله الحمد خطت خطوات جيدة خلال العقود الأربعة الماضية في نواح عدة؛ ربما ما نحتاجه خلال الفترة القادمة تفعيل الخطط المُعدة سلفاً، وتقييمها ومراجعتها وتعديلها بما يتلاءم مع المُعطيات والمستجدات. ومن الأهمية بمكان أن تكون الأهداف واضحة ومحددة ودقيقة حتى يسهل تحقيقها، ومن ثمّ مساءلة القائمين عليها إن كانت هنالك ثمة إخفاقات، وكذلك تهيئة الحاضنة المُلائمة لتنفيذ هذه الخطط؛ وذلك بتحديث المنظومة التشريعية بما يكفل نجاح ما نحن بصدده. كما أنّه من الضروري أن تكون هنالك تكاملية لا تنافسية بين مختلف القطاعات والجلوس معاً على طاولة واحدة لتحقيق ذات الهدف كل في موقعه ووفقاً لاختصاصه. فمهاتير محمد لم يتحدّث عن معجزات أو عن عصا سحرية استخدمها؛ بل تحدّث عن رؤية واضحة آمن بها منذ البداية، وجاهد من أجل تحقيقها؛ وإلا حتى لو أتينا بألف مهاتير سنظل نراوح مكاننا طالما أننا لم نتخذ الإجراءات العملية التي تضمن نجاح هذه الرؤية؛ فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم التنزيل: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (سورة الرعد الآية:11).