كي لا يتحول العرب إلى أمَّة عاقرة

 

 

عبيدلي العبيدلي

على امتداد ما يزيد من النصف قرن، لم يكف العرب، وعلى وجه التحديد الفئة المثقفة منهم، إلا فيما ندر، عن جلد الذات. وبفضل ذلك تحول المشهد الثقافي/السياسي العربي إلى ما يشبه المآتم التي تتقبل العزاء، أو تتولى تلك الفئة إقامته، عندما يتعذر وجود من يتبرع بإقامته. أفرزت هذه الحالة الكربلائية ثقافة، كي لا نقول حضارة، تقوم على أربع ركائز مركزية ولدت الحالة التي نشير لها.

أولى هذه الركائز، هي حالة اليأس المنقطعة النظير التي لا يخفيها التفاخر بإنجاز هنا أو تفوق هناك. فالحديث هنا يتناول سلوك الأمة العام، لا سلوك فئة محدودة من أفرادها، لا يشكلون أيضا الفئة الطليعية في صفوفها. وتناسلت هذه الحالة اليائسة والتيئيسية في آن، كي تولد من أرحامها جيلا ضرب اليأس جذوره عميقة في نفوسه، فبات عبئا على أية محاولة للنهوض بالأمة، أو مساع لانتشالها من هذه الحالة المزرية على المستوى الثقافي/السياسي. وتوسعت دائرة اليأس فانتقلت، بشكل ممنهج على أيدي القوى الأجنبية والمؤسسات الخارجية المرتبطة بها، التي لها مصالح مباشرة في استمرار هذه الحالة السلبية وتناميها عموديا كي تشمل الأجيال كافة، وانتشارها أفقيا كي تنخر عظام الفئات الاجتماعية دون أي استثناء، كي يتسنى لها إحكام فبضتها على مقدرات الأمة العربية، والتحكم في سلوك أبنائها. ولم تكتف هذه القوى بالاعتماد على قدراتها الذاتية، بل عمدت، ونجحت، في اختراق المجتمع العربي فأنشأت لها، وهنا يتعظم الخطر، طابورا خامسا محليا، يشيع، بوعي أو بدون وعي ثقافة اليأس هذه.

ثاني هذه الركائز، هي حالة الارتخاء المشوب بدرجة عالية من اللامبالاة. هذا المزيج من السلوكين ولد ثقافة تقوم على نبذ كل الجهود وتحقيرها من جانب، والدعوة لابتعاد عن المشاركة من جانب آخر، فنشأت جراء ذلك طبقة عربية طفيلية تتفوق على الجميع في قطف الثمار، وتقف في آخر طوابير العمل والإنتاج. واستفادت هذه الطبقة المحكومة بهذا السلوك والمتشبعة به، من الثروة الشكلية الناجمة من تدفق النفط في العديد من البلدان العربية بكميات هائلة، والسيولة النقدية السريعة التبخر أيضا التي ولدها بيع النفط والارتفاع في أسعاره، في القرن الماضي بوتائر جنونية غير مسبوقة. لكنها لم تولد اقتصادا منتجا، بل أنشأت بديلا استهلاكيا غير قادر على تحويل السيولة النقدية إلى رأسمال اقتصادي منتج. وهكذا وجدنا أنفسنا، عوضا عن عناق مثمر بين رأسمال بشري وآخر اقتصادي، نواجه زواجا شبه كاثوليكي بين سيولة نقدية سريعة التبخر، مع جيل استهلاكي مبذر. وتوالدت هذه الظاهرة هي الأخرى أيضا، فانتقلت عدواها إلى بلدان عربية غير منتجة للنفط، بفضل حفنات المال التي تدفقت عبر جيوب العرب العاملين في الدول النفطية، أو أبناء هذه الدول المستثمرين في الدول العربية الأخرى.

ثالث هذه الركائز، هو نمط انتاج الاقتصاد الغربي الذي، بشهادة الجميع، في جوهره، اقتصاد ريعي. وهو في مفهومه الضيق يقوم على مصدرين "أولهما خارجي، ويشمل ريع النفط والغاز. إذ أن هناك فارقًا كبيرًا بين تكلفة استخراجها وسعر بيعهما، وريع المعادن الذي يشكل نتيجة تفوق سعر المعادن على تكلفة إنتاجها تفوقًا كبيرًا، وريع الممرات وخطوط النقل الاستراتيجية، وريع تحويلات المغتربين والعاملين في الخارج، وريع المساعدات الخارجية. أما النوع الآخر للريع، ويأتي من المصادر الداخلية وهي ريع السيادة، والخدمات التابعة لأنشطة الدولة، بالإضافة إلى ريع المضاربات المالية، إذ يسعى للربح دون مجهود." وفي المجتمعات العربية، وكما يقول الكاتب أحمد بشارة "تحتكر السلطات والحكومات امتلاك هذه المصادر وتتحكم في كيفية توزيع وبيع هذه المصادر. وبهذا تكون الحكومات قد امتلكت المواطنين أنفسهم لأنها تمتلك مصادر دخلهم، وهو نوع من التسيد والتملك بين الحاكم والمحكوم". هذا بدوره نشر ثقافة تبعية مباشرة غير قادرة على الابداع بين المواطن والدولة، وأدى إلى عبودية غير مسبوقة بينهما. وتحولت الدولة، بفضل تلك العلاقة إلى سيد، والمواطن إلى ا يشبه العبد، بدلا من ان تكون العلاقة معاكسة لهذه المعادلة تماما.

رابعا: قوى سياسية مُعارضة غير أصيلة، بمعنى غير قادرة على تشخيص الواقع العربي، في كل بلد على حدة، او على المستوى العربي العام، ومن ثم فشلت في بناء قاعدة جماهيرية واعية وصلبة، تمارس رقابة ذاتية صارمة على نفسها وغلى أطرها القيادية، بدلا من مزاولة دور القطيع التابع الذي لا يكف عن التصفيق حتى لفشل تلك القيادات، التي لم تختلف كثيرا عن الحكومات التي تنادي هي بتغييرها أو بإصلاحها. وهذا ينذر ليس بواقع بائس فحسب، بل بمستقبل مظلم أيضا، ما لم تجر معالجته بشكل سريع وجذري على حد سواء. كي نضمن تغيير الحاضر نحو الأفضل، والتأسيس لمستقبل أكثر سعادة ورخاء.

هذا الواقع غير المنير لا يمكن تغييره من خلال نظارة سوداء أسيرة تلك الركائز، بل بحاجة إلى ثورة داخلية على المستوى الفرد العربي أولا، تقود بشكل تلقائي إلى تحول نوعي في السلوك العربي، قادر على هدم تلك الركائز الأربع الواحدة تلك الأخرى، هذا إنا أردنا تحاشي الإصابة بعقم عربي تتحول فيه هذه الأمة إلى كيانات مجتمعية عاقرة.

ومعالجة العقر لا تأتي بالتمنيات، ولا تبدأ بالبكائيات، بل تتطلب لمن يريد أن يقضي عليها بالمواجهة الصريحة الجريئة تبدأ بالفرد قبل أن تنتقل كي تتحول إلى سلوك اجتماعي، يتطور رويدا رويدا كي يتحول إلى ثقافة مجتمعية تكون الخطوة الأولى على طريق تحول حضاري شامل.

قد تبدو المهمة شبه مستحيلة، لكن بداية العلاج تنطلق من تشخيص الداء، ورفض الخضوع له، كي تمر بإيجاد الدواء والقبول بتناوله، قبل الوصول إلى حالة الشفاء الكامل والمحافظة عليها، هذا إن أردنا ألا نصبح أمة عاقرة.