هيا نشتري شاعرا!

 

 

زينب الغريبيَّة

حِيْن تفتح الجرائد اليومية، تجد طوال اليوم الحديثَ عن جَلْب مشاريع اقتصادية، يَسْأل البعضُ متى سوف يفتتح المطار الجديد؟ في حِيْن يَسْأل آخر عن المول الكبير، وينادي ثالث بفتح مزيدٍ من الفنادق، ويخرج علينا كاتبٌ صحفيٌّ مَطْلع كل أسبوع يُبشِّر الناس بالنعيم القادم: استثمارات جديدة سوف تُضخ في السوق، ويؤكِّد أنَّ كل شيء سوف ينتعش، وستمضِي التنمية تحقق أهدافها، وأنه سوف تتأسس شركات جديدة في مُختلف الأماكن، وسوف يدخل البلد عشرات الآلاف من مُختلف الثقافات للمشاركة في هذا الانتعاش الذي ينسينا القلق من انخفاض أسعار النفط، مؤشر الأسهم سيظل نشطا، وستظل الأبصار شاخصة إلى الشاشة التي سترتفع فيها أسعار كل شيء، ومع هذا الارتفاع سوف ترتفع معنويات الإنسان؛ لأنه سيحصل على إيرادات يتمكن بها من العودة إلى عاداته الاستهلاكية غير الرشيدة، وسيعود الإنفاق الحكومي كما كان، وسيحصل الجميع على امتيازات لم يحلموا بها، وسوف يتكدس المواطنون في المؤسسات الحكومية، ويتكدس الوافدون في قطاع الخدمات والقطاع الخاص، وسوف يتنوَّع الاستهلاك، فهل تحريك الاقتصاد هو الذي سيجعلنا ننتج أكثر، ونعمل أكثر، ونكون فيه أكثر تماسكا، وأكثر تسامحا، وأكثر فاعلية؟!

الكلُّ قابل للبيع والشراء في مجتمعات تسيطر عليها السلعة والمنفعة، ما نظن له عائد مادي سوف تهتم به الحكومة والمواطنون، وما ليس له قيمة لن يهتم به أحد؛ فالأشياء ليست بما تُمثِّله لنا من قيمة روحية وتاريخية، إنما بما تُمثِّله لنا من قيمة اقتصادية، ولا أحد يصدق كلَّ ما يرفع من شعارات؛ وبالتالي فاجأ الكاتب البرتغالي "أفونسو كروش" الجميع برواية "هيا نشتري شاعراً"، التي أراد بها أن يقول إنَّ العقار الأهم الذي نحتاج إلى أن نلتفت إليه هو القيم الأدبية، لقد كتب هذا الكاتب عن الجفاف الذي بلغته المجتمعات الغربية حاليا، هل نحن أحسن حالاً منها؟ ألسنا نعاني أكثر منها من اضمحلال الجانب الإنساني في مجتمعاتنا، اضمحلال يؤثر على كل شيء من الاقتصاد إلى التعليم؛ حيث أصبح كل شيء سلعة تباع وتشترى من المنصب إلى الوظيفة إلى الشهادة، وبالتالي يفقد المجتمع عنصرا مهما للحفاظ على جوهره ألا وهو الاستحقاق الإنساني الذي يقوم على قيم العدالة والمساواة.

في هذه الرواية الصغيرة التي أصدرت ترجمتها العربية دار مسكلياني للنشر، أراد أفونسو كروش أن يقول لنا إنَّنا علينا أن نحذر من تأثير الأرقام الاقتصادية على جانب مهم من حياتنا، وهو المشاعر والأحاسيس التي قد تتحوَّل إلى أرقام جافة لا معنى لها، فلا يمكن أن نقول إنَّ فلان يحب وطنه بنسبة ستين بالمائة، والآخر يحبه بنسبة ثمانين في المائة، فالشخصيات تحولت عبارة عن أرقام ورموز، خاضعة لمعايير الربح والخسارة، والشركة والماركة؛ مما يقود إلى اضمحلال اللغة الجميلة البلاغية الحميمية التي لم يعد أحد قادرا على فهمها، وفي ظل هذا التأزم تقرر البنت شراء شاعر، لكنَّ الفكرة لم تلقَ ترحيبا من الأب إلا بعد تمحيص وتأكُّد من أنه لن يكون مثل الرسَّامين الذين يخلفون الكثر من الأوساخ من أجل أعمال لا قيمة لها.

وحين وافق الأب، ذهبتْ البنت إلى متجر لعرض الشعراء بمختلف القياسات والأحجام للبيع والشراء؛ منهم: الكلاسيكي، والحداثي، والكئيب، والمبهج، والمشاكس، وهناك المسالم، ولكل منهم سعره وفق منطق السوق الذي يتعامل مع الشعر والفن كشيء للزينة والأكسسوار، لا كفن إنساني راقٍ يحتاج إليه الناس لأنه يعبِّر عن مشاعرهم، وضميرهم، ومشاعرهم، هذا الشاعر المشترَى يلتزمُ بدور العبودية وضيفته أن يضع الفتاة على درب إنسانيتها المستلبة في عالم السوق والمنفعة والتجارة بكل شيء. وحين تسمع صديقاتها بما قامت به تبادر جميعهن إلى شراء شعراء وفنانين من منطلق الحسد والغيرة، والتملك والاستحواذ، لا حُبًّا بالشعر والفن لأنَّ حركة العرض والطلب تكفُل للجميع شراء السلع التي يودون اقتناءها؛ لذا وعبر حوار بين البطلة وصديقتها عن فقدان المعنى حين زارتها لترى شاعرها، قالت له حين رأت ما كتب على الجدار من أبيات شعرية: لقد وسخ الجدار، كنت أعتقد أنَّ الرسامين فقط يفعلون ذلك"، وسألت صديقتها: ماذا يفعل الشاعر؟ فأجابتها: إنه ينظم القصائد؟ وتساءلت: وبماذا تنفع؟ وإجاباتها تنطبق على إجابة كثير من الناس حين تذكر الأشياء التاريخية والتراثية والكتب والمعرفة والفكر، وبماذا تنفع؟! إنَّها الاعتقاد المادي الذي يسيطر على كثير من الأذهان، فيقود إلى اضمحلال في المعاني والقيم الإنسانية. ورغم ذلك عمل هذا الشاعر على تغيير هذه الأسرة التي تسيطر عليها الأرباح والأرقام، ولكن الأب بدأ يتوجس من الشاعر، وحين حدث ركود اقتصادي لتجارته قرَّر التخلص منه للتقليل من أعباء المصاريف، وفي ظل هذه الأوضاع كانت الأم قد تأثرت بكلمات الشاعر ووجدت في كلماته صدى لأحلامها.

لقدْ أرادَ الكاتبُ في هذه الرواية المتميزة أن يقول لنا علينا أنْ ننتبهَ من سيطرة النفعية على أفعالنا وعلاقتنا، وأن نستعد لمواجهة أسئلة صعبة جدا؛ منها: ما موقفنا لو قال لنا أحد إنَّه يتحدث إلينا لأنَّ أحدًا دفع له؟ ما موقف الأم التي تقول لابنها إنَّها ربته لكي يعتني بها حين تكبُر؟ ما موقف الصديق الذي يقول لصديقه أن يتواصل معه لأنَّ لديه شركة أو ينتمي لأسرة ثرية؟ ما موقف المسؤول الذي يقول له موظفوه لقد اضطررنا أن نقول لك إنك على صواب في الوقت الذي تخطئ؛ لأنَّنا نريد أن تعمل على ترقيتنا ومنحنا علاوات استثنائية؟! وقائمة الأسئلة تطول جدًّا.

هل أصبحتْ المشاعر والقيم الإنسانية سلعةً نادرةً تُباع في الأسواق؟ هل أصْبَح الشاعر والكاتب سلعةً تُبَاع من أجل بث بعض المشاعر في زمن لا يعترف إلا بأسهم البورصة؛ إذن فهذه هي الأزمة التي يجب أن نهتم بها؛ لأنَّنا لن نكون أقوياء في ظل انحسار القيم في مختلف المستويات الأسرية والعملية والمؤسساتية، وفي ظل المتاجرة بها، هل سنجد يوما أن كل مجتمع سيطرد الرسامين والموسيقيين والشعراء والكتاب والفلاسفة...وغيرهم؛ لأنَّهم لا يفعلون شيئا، أو لأنهم يقولون كلاما لا فائدة منه، أو لأنَّهم يُوظِّفون اللغة الجميلة يُتهمون بالكذب، كيف يُمكن أن تحيا مجتمعات بدون أصالتها، وجمالها؛ حيث للأشياء قيمة بمقدار ما تمثله لنا، لا بمقدار ما تباع به.

في ظلِّ كلِّ الفعاليات التي تُركِّز على الاقتصاد، وتقلص الانفاق على الجوانب الثقافية والجمالية، فإنَّنا نكون قد جعلنا المجتمع أمام تأزُّم كبير؛ لأننا نغفل الجانب الخيالي الذي يحسن من نفسيات الناس ويدفعهم إلى مزيد من الإنتاج، والدافعية والأمل، لنفتح الصالونات، ونعمل المهرجانات الثقافية، ونقيم المعارض، وندرِّس طلابنا الفنونَ والتذوق، حتى لا يأتي يومٌ يضطرون فيه لشراء شعراء أو فنانين من أجل أن يُشْعِروهم بالمعنى.