محطة من الماضي في واقعنا التعليمي

 

حميد السعيدي

 

التعليم هي المرحلة التي يتم فيها بناء الكثير فيما يتعلق بحياة الفرد، فهي لا تبني المعرفة فقط، وإنما تبني اتجاهات المتعلمين ومهاراتهم، وتعمل على صقل شخصياتهم، وتؤثر في مستقبلهم، لذا فالسياسات التعليمية دائما ما تقدم رؤية حول ما تريده من التعليم، وتحدد صفات المخرجات التعليمية التي تريدها، بما ينعكس على الشخصية الاعتبارية للمواطنة، وفقا للصفات التي يجب أن يتسم بها المواطن، بما يساعده على تحقيق الأهداف والغايات الوطنية العليا، ويأتي ذلك لأنّ المتعلم يقضي جزءا كبيرا من حياته في مرحلة التعليم، حيث إنّ المدرسة هي المؤسسة الأكثر تأثيراً في بناء شخصيته، والمواقف التي تحدث فيها هي الأكثر بقاء في ذاكرته، فهو يتعلم مما يشاهده من سلوكيات ومواقف تحدث من المعلمين أو من زملائه الطلبة.

والكثير من المواقف تبقى بالعقل لأنّها أخذت حيزاً من الاهتمام مما يدفع العقل ليحفظها في الذاكرة طويلة المدى، وربما البعض منا يحتفظ بذاكرته الكثير من الأحداث المتعلقة بمرحلة التعليم، لأنها استمرت في المدرسة لفترة طويلة من الزمن، فالإنسان لا يستطيع أن يسنى المواقف السعيدة، ولا السيئة أيضا فكلاهما تبقى محفورة بالعقل، يستطيع استعادتها متى ما حدث موقف مشابه أو أراد العودة للماضي والحوار مع ذاته ليتأمل ماضيه، أو بما يساعده على قراءة مستقبله.

الأمر الذي دفعني لاسترجاع جزء من ذاكرة الماضي هو هموم التعليم ومشاكله التي لا تنتهي، ولا نرى لها أفق قريب يعجل في إصلاح منظومتها المتهالكة وغير القادرة على إدارة دفة التغيير نحو مراسي المستقبل، فنحن تأخرنا عن الركب، ولم نستطع أن نوجد لنا مرفأً على ميناء المستقبل، فالواقع التعليمي بحاجة إلى التعجيل في إصلاحه؛ فقد مضت السنوات منذ عام 2011م، ونحن نترقب التغيير دون أن نرى أثراً، فهل نحن بحاجة إلى عقود من الزمن حتى يحدث ذلك التجديد والتطوير في التعليم!

حوار ما كان حول واقع التعليم ومشكلاته أعادني للماضي لأتذكر بعض أحداثه والتي ما زالت تمارس ليومنا هذا، ربما نعود لفترة طويلة من الزمن تتجاوز العقدين، حيث كنت طالباً في الصف الأول الإعدادي (السابع حالياً)، ويومها كانت مختبرات العلوم من أرقى المختبرات التي تتوفر بها كل الأدوات الحديثة التي تساعد الطلبة على التعلم من خلال الممارسة والاكتشاف، بغية من المؤسسة التربوية إكساب الطلبة مهارات التفكير العليا، ومهارات الاكتشاف والتجريب، بحيث إن مادة العلوم مادة تختلف عن بقية المواد، فهي تعتمد على بناء المعرفة، وإكساب الخبرة من خلال التعامل مع المواقف والمشاهد، والتعامل مع التجارب المخبرية، لذا جهزت المختبرات يومها بطريقة علمية وآمنة من أجل أن تحقق أهداف التعلم الفاعل.

ما يعود بي للماضي هو المنهجية التي يستخدمها المعلم دون أن تتغير، ودون أن يتم إصلاح هذه المعلم أو تطوير أدائه للأفضل، وكأن العالم يخلو من المعلمين الأكفأ، حيث كنا نذهب للمختبر يوما واحدًا بالأسبوع وكنا نشعر بالسعادة لأننا كنا نخرج من القاعة الصفية ونغير بيئة التعلم، ولكن الموقف الذي كان يأخذ حيّزا من تفكيري: متى سأتمكن من إشعال الشعلة موقد (بنسن) والتي تتواجد أمام كل طالب، والتي كنت أرى أنّه تم استخدامها قبل حضورنا، فاعتقدت أنّ طلبة الصف الذي أعلى منّا هم من يستخدمها، ولكنني انتهيت التعليم الإعدادي ولم أتمكن من استخدام تلك الشعلة إطلاقا، ولم يستخدمها أي من زملائي الطلبة، فاكتشفت أن المعلم كان يستبدل غطاء الشعلة باستمرار حتى يوضح للزائرين أنّ الطلبة كانوا يستخدمونها في التجارب المخبرية.

تبقى الذكريات وأحلام الطلبة عالقة في أذهانهم، هم أنفسهم القضاة الذين سيصدرون أحكامهم على منظومة التعليم، على المنهج الذي يقرؤونه، وعلى المعلم الذي يدرسهم، سيصدرون أحكامهم على منظومة القيم التي يشاهدونها بالمدرسة، وعلى ممارسة الجميع سواء كانت بالمدرسة، أو المجتمع، إنهم قضاة فكيف تريدون أن يصدروا أحكامهم عليكم؟

لذا فالمسؤولية عظيمة تقع اليوم على القائمين على إدارة المنظومة التعليمية، وما تبقى منها من أمل نرجوه أن يصطلح حال هذا التعليم لا لشيء إلا لأجل عُمان، فإذا تبقى هناك جزء من حبنا لها، ومن وطنيتنا التي نفتخر بها، فإن مسار التعليم يجب أن يتغير، يجب أن يكون الاهتمام كبيراً بالعنصر الرئيسي في المنظومة التعليمية وهو المعلم، فهو بحاجة إلى عناية خاصة تتضمن مجموعة من العناصر تأتي في مقدمتها: الأطر القانونية التي تنظم المهام الوظيفية والحقوق والواجبات، والجانب الآخر هو التدريب والتأهيل المستمر من أجل تطوير أدائه، وفقا لأحدث النظريات التربوية والمعارف الحديثة والمتجددة، إلى جانب التحفيز ومنظومات المكافآت والعلاوات والترقيات التي يجب أن تظل في ذات المسار المحدد لها، فمهنة المعلم ليست كأي مهنة أخرى، فالمهام التي يقوم بها المعلم لا يمكن أن نضعها في ذات الميزان في المهام الوظيفية للوظائف الأخرى، لذا من الإجحاف حقا أن يكون المعلم وبقية الموظفين في المؤسسات الأخرى يتساوون في كافة المزايا، فالمعلمون يجب أن يكونوا على مستوى عال من الاهتمام من المؤسسة التربوية، ويجب أن تعمل على رفعة مكانتهم في المجتمع، في ذات الإطار يجب أن تعمل على محاسبة المقصرين منهم، فالمعلم الكفء ينتج أجيالا ذات مستوى عال من العطاء والإخلاص لأجل الوطن، والمعلم الفاشل ينتج مجموعة من غير القادرين على تحقيق آمالهم وطموحاتهم، لذا فإنّ الاهتمام بهؤلاء المعلمين يجب أن يأخذ أولويات المؤسسة التربوية نظراً للأهمية القصوى التي يحظون بها، فدونهم لن نستطيع أن نخلق ذلك المستقبل المنشود الذي نرغب أن يكون عليه هذا الوطن، فالمناهج الدراسية الجيدة، وأنظمة التقويم التربوية الحديثة، والمباني المدرسية المجهزة بأحدث الأجهزة، لن تستطيع أن تحقق أهداف التعليم إذا لم يكن لدينا معلم لديه الطموح والعطاء والإخلاص في العمل.

Hm.alsaidi2@gmail.com