وطني جنة الله.. وأهله ليسوا ملائكة

مسعود الحمداني

(1)

وطني جنة الربّ في أرضه، فردوسه المشتهى، وسدرة منتهاه، عاشقا ومعشوقا، ولكن سكانه ـ ككل أرض الله ـ ليسوا ملائكة، إنّهم خليط بين الفاسد والمصلح، والجميل والقبيح، والعظيم والوضيع، والملتزم والمنفتح، والعالم والجاهل، والمخلص والمنتفع، كل هؤلاء يعيشون تحت سقفه، يشربون ماءه، ويتنفسون هواءه، ويركبون بحره، ويقتسمون سماءه، جميع هؤلاء (الخلطاء) يعيشون فيه، ويعتاشون على موارده، ويأكلون من ثماره، فمنهم الشاكر، ومنهم الناكر، ومنهم الحاقد، ومنهم الناقد، ومنهم بين ذلك.

فوطني جنةُ اللهِ في أرضه.. وأهلهُ ليسوا ملائكة.

(2)

بنى هذه الأرض الصالحون والطالحون، كلٌ يراه بقلبه، وزاوية رؤيته، وذهبوا كلهم إلى الفناء، وظل وطني شامخا، باسقا، لا تنحني قامته، ولا تنقضي أيامه، ينظر إلى الشاكرين بعين الرضا، وإلى الناكرين بعين العُتبى، وإلى الجميع بروح المحبة والتسامح، ذهبوا جميعهم إلى منتهاهم، وظل الوطن مبتدأ لا ينتهي، عظيما وضاربا بأطنابه في أعماق الأرض، لا تهزه ريح، ولا تقض أركانه عاصفة.. ورغم معاول الهادمين من أبنائه وغيرهم إلا أنه بقي حانيا وحنونا ووديعا، ومسالما لا مستسلما، يقوم من كل عثرة كطائر الرخ الذي لا يموت.. ولو كره المبغضون..

 فوطني جنةُ اللهِ في أرضه.. وأهلهُ ليسوا ملائكة.

(3)

من الوردة تخرج الأشواك تحاول أن تنال منه، جاهلة قدره ومقداره، عابثون كلقطاء، مشردون كقطط الشوارع، يرشقونه بالحجارة، فيغدق عليهم أطيب الثمرِ، وينظر لهم كما ينظر الناسك ـ إلى الضالين طريقهم ـ نظرة حنوّ وعتاب ومغفرة، فأبناؤه الذين غرقوا في ضلالتهم لأول ألم، لا يملكون سوى عقوقٍ وكلامٍ وكثير، وشعورٍ مراوغٍ من الحنين إليه، لأنهم يدركون ـ وإنْ أنكروا ـ أنّ الغريب لا بد له من عودة وإن طالت، ويعلمون يقينا أنّ هذا الوطن الذي اتسع لكل الأرواح، لا يضيره قلوب أخرى أحبته بطريقتها، وضلّت سبيلها إليه، وظلّت تراهن على تسامحه وغفرانه لخطيئاتهم.

فوطني جنة الله في أرضه.. وأهله ليسوا ملائكة.

(4)

الغد.. للمصلحين، والصالحين، والطيبين، والمخلصين لتراب وطنهم، أولئك الذين ضحوا بأجمل أوقاتهم، وأثمن ساعات راحاتهم ليستريح غيرهم، أولئك الذين سعوا حين كان الناس نياما فنثروا بذور أحلامهم على قمم الجبال، وعلى السفوح والسهول ليقطفوا ثمار ما بذرته أيديهم بعد حين.. الغد لأولئك الذين عاشوا لزمنٍ غير زمانهم، الذين يحملون الآن بيارق الأمل والعمل، الذين يحرثون الصحراء والبحر، والذين يجاهدون في سبيل الرزق، والذين يجلسون خلف مكاتبهم، والذين يمسكون بالقلم ليكتبوا ما يجعل من المستقبل أكثر إشراقا وسطوعا وجمالا.. الذين تمسكوا بعروة الوطن الوثقى، ووقفوا ضد كل ما يعكّر صفوه، أو يسيء له.. أولئك الذين آمنوا بأنّه لا كمال إلا لله تعالى.. والذين أيقنوا أنّ...

وطني جنةُ اللهِ في أرضه.. ولكنّ أهلهُ ليسوا ملائكة.

[email protected]