التعثر الأمريكي

 

عبيدلي العبيدلي

حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، كان العالم، دون استثناء، يعتبر بريطانيا هي القوة العظمى التي لا يشق لها غبار. بل كان الكثير من المتابعين للأحداث العالمية، يعتبرون العاصمة البريطانية "لندن" المسؤولة عن إثارة النزاعات في مختلف مناطق العالم، بالقدر التي هي وراء إخمادها أو تهدئتها.

ثم تحولت الأنظار من لندن نحو العاصمة الأمريكية واشنطن، واستطاعت الولايات المتحدة أن تتبوأ المكانة الأولى دوليا، بوصف كونها الدولة الأعظم في العالم، خاصة قبل أن يبرز من ينافسها وهو الاتحاد السوفياتي، الذي أدى تدهوره وتمزق كياناته، إلى عودة واشنطن على صهوة التفرد بقيادة العالم.

وكان يقف وراء هذه القوة الأمريكية ما يفسرها ويبررها، وهو ما يرصده الكاتب كمال حبيب في فقرة مكثفة يسرد فيها مجموعة من العوامل، المترافقة مع مجموعة أخرى من المظاهر، عبرت في مجملها عن "بزوغ الولايات المتحدة كقوة عظمى قابلة للنمو والتوسع، عندما "سيطرت على (اليابان) القوة الآسيوية الكبرى، وسيطرت على (ألمانيا) أقوى دولة أوروبية، وكان الاتحاد السوفييتي (المنهار لاحقاً) لا يزال في مرحلة بناء قوته الاقتصادية.. فأمريكا في عام 1949م كانت الدولة الأولى في متوسط دخل الفرد، وكان الفرد الأمريكي هو الأعلى حيازة في العالم للسيّارات والتليفونات، واستهلاكاً للكهرباء، والأكثر نصيباً في الرعاية الصحية، كما كان الأمريكيون يشترون 6 أضعاف ما يشتريه غير الأمريكيين من ملابس وأحذية، ويستخدمون 70% من السيّارات، و35% من الطرق، و70% من الطائرات المدنية في العالم... وتسارع النمو الاقتصادي الأمريكي 40 ضعفاً، خلال الفترة من 1870م 1950م، وتزايد عدد السكان من 40 مليوناً إلى 150 مليون، وبعد الحرب العالمية الثانية أصبحت أمريكا تنتج 50% من مجمل الإنتاج العالمي للسلع والخدمات، وزاد احتياطي رأس المال لديها من 45 مليار، إلى 895 مليار، واستطاعت أمريكا تحقيق معجزة اقتصادية خلال الحرب فضاعفت الناتج المحلي الإجمالي لها من 100 مليار سنة 1940م إلى 200 مليار دولار عام 1945م، وحققت أمريكا تفوقاً لا يضاهى في الإنتاج الصناعي، كما احتكرت تقنية القنبلة النووية".

لكن هذا الصعود المنظور، بدأ في التراجع، بل وفي التعثر، وبدأ العالم يتلمس ذلك من خلال رصد وكتابات مجموعة من الباحثين، من بين هم عمالقة من أمثال الفرنسي روجيه غارودي الذي دلل في كتابه "أمريكا طليعة الانحطاط"، الذي نشرت نسخته العربية "دار الشروق"، وتولى تحرير مادته عمرو زهيري، وقدم له كامل زهيري. وقدم عرضا شافيا له أحمد عبدالله، فنقل عن غارودي، توصيفه للانحطاط الأمريكي قائلا "هناك ثلاثة وثلاثون مليون أمريكي يعيشون تحت خط الفقر، وحجم تجارة المخدرات في أمريكا يزيد عن حجم مبيعات السيّارات، ناهيك عن التشتت الاجتماعي وانتشار الفساد والدعارة والمخدرات (ثلاثة ملايين مدمن وعشرون مليون متعاط) والجريمة في نيويورك وحدها هناك حادث اغتيال كل أربع ساعات وحادث اغتصاب كل ثلاث ساعات، وحادث اعتداء كل ثلاثين ثانية ويسيطر 12.5% من السكان على 87.5% من ثروة البلاد، ويحصل مليونان ونصف مليون مواطن على دخل يساوي مائة مليون آخرين في المجتمع الأمريكي، وبعد أن سيطر قانون السوق على النظام التعليمي أصبحت تكاليف التلميذ تتراوح بين عشرين إلى تسعة وعشرين ألف دولار سنوياً، ولذلك فإنّ 40% من الأمريكيين الذين يدخلون الثانوية لا يستطيعون القراءة بطريقة سليمة، ولا يعرف (ثلاثة وعشرون مليون بائع) القراءة والكتابة"

وليس غارودي هو الوحيد من تلمس مظاهر هذا الانحطاط، إذ يشاطره هذه الرؤية العديد من باحثين آخرين بعضهم من أمثال الكاتب الأمريكي غيل نورتون، الذي شغل سابقا منصب وزير الداخلية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، حيث نجده يؤكد في مقالة له "إنّه يبدو أنّ الرئيس الأمريكي باراك أوباما اختار الطريق التي تؤدي بالبلاد إلى اضمحلال دورها في العالم، (مضيفا)، أنّ الدور الأمريكي آخذ في الاضمحلال، وأن بقاء البلاد في المركز الأول على المستوى العالمي بات في خطر".

ويقبل بما ذهب إليه نورتون، باحث آخر، كان مشرفا على 17 جهازاً للمخابرات، هو دينيس بلير، حين يؤكد في تقرير مفصل له قدمه إلى لجنة المخابرات في مجلس الشيوخ الأمريكي، وفجر فيه قنبلة تنذر بأن عمق "الأزمة المالية تهدد الأمن القومي الأمريكي، مما قد يعود بالتطرف إلى الواجهة والذي سيطر على حقبة العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، (ويضيف) أنّ القلق الأولي الأمني في الأجل القريب في أمريكا هو الأزمة الاقتصادية العالمية وتأثيراتها المستقبلية المحتملة ويصف الانهيار الاقتصادي والمالي المتواصل بأنّه الأخطر منذ عقود إن لم يكن خلال قرون .‏"

وهناك الكثير من المراجع الأخرى التي تلخص الأزمة الأمريكية التي تعبر في جوهرها عن مظاهر تعثر "النموذج الأمريكي" من خلال إبرازها مجموعة ملموسة من الظواهر تلخصها في "تراجع الإنتاجية بسبب شدة المنافسة – ارتفاع التكلفة – التلوث الناتج عن كثرة الاستغلال والإنتاج وعجز الميزان التجاري المستمر.. وتراجع الصناعة الأمريكية وضعف إنتاجياتها (سوية مع) تراجع القدرة التنافسية للمصنوعات للأمريكية في الأسواق".

لقد هبت على العالم منذ تسعينيات القرن المنصرم مجموعة متلاحقة من التغييرات الجذرية والبنيوية، تركت بصماتها الواضحة والعميقة على مكونات المشهد السياسي العالمي، ومن بينها مظاهر التعثر الأمريكي الذي عبرت عنه الشواهد التي جئنا عليها في بداية المقال.

ولعلّ هذا يطرح سؤالا في غاية الأهمية يقول: إلى متى تصر البلدان العربية على وضع جميع بيضها في السلة الأمريكية، أم أنّه جاء الوقت الذي ينبغي لصناع القرار العربي أن ينظروا فيما حولهم بحثا عن قوى صاعدة جديدة، وعددها ليس بالقليل، وهي في انتظار من يمد يده نحوها؟