رعونة ترامب وعناد نجاد

 

علي المعشني

 

أمريكا دولة نشأت منذ ما يزيد على قرنين ونصف بقليل، وتتكون في الأساس من خليط من الشعوب والأعراق وإن كانت هويتها العرفية الجلية هي هوية العرق الأبيض الأوروبي والثقافة الغربية بعمومها.

أمريكا دولة لا تحكمها قوانين – رغم وجودها – بل تحكمها أعراف وهذه الأعراف تمثل الخطوط الحمراء والبيضاء معًا، رغم تضاد بعضها مع القوانين الأمريكية السارية بل ومع الدستور الأمريكي بالتحديد.

أمريكا دولة لا يحكمها أفراد ولا مؤسسات – رغم وجودهم ظاهريًا – بل تحكمها لوبيّات النفط والمال والسلاح وتقرر مصيرها وترسم سياساتها، لهذا تتناوب هذه اللوبيات على سٌدة الحكم كلما دعت الضرورة واقتضت المصالح العليا لها.

أمريكا دولة يقوم اقتصادها ويقوى بافتعال الحروب والكوارث والأزمات بين البلدان والشعوب حيث يحلو لها إدارة الأزمات واستثمارها إلى الرمق الأخير.

أمريكا دولة تؤمن بأنّ نشر قيم الديمقراطية والعدالة والحرية الحقيقية بين شعوب العالم الثالث أكبر مهدد لمصالحها ونفوذها في العالم وكاشف لحقيقتها، وترى إنّ نشر تلك القيم بنسخها الديكوريّة الباهتة والتشجيع عليها هي أكبر ملهاة للشعوب وأعظم مكسب لتمرير مصالحها وتنصيب العملاء وبث الفرقة والوهن في مفاصل الدول وبين فئات شعوبها.

أمريكا دولة تؤمن بأنّ نشر قيم الثقافة الأمريكية وتسويقها كقضاء وقدر لا يرد لا يتأتى إلا عبر المنظومة الديكوريّة المسخ للديمقراطية الليبرالية الغربية، حيث يكثر الجدل ويقل العمل ويتكاثر المنبهرون بقيم الغرب من النٌخب والمحسوبين عليهم فتتناسل أجيال غربية الهوى والهوية في بقاع الأرض عبر تمرير هذه الأدوات الناعمة وإيجاد الحواضن الفكرية والاجتماعية لها في كل بلد.

أمريكا دولة لا تؤمن بالتكافؤ والندية في العلاقات مع الآخر بل تؤمن بنظرية السيد والخادم، وبشعار من ليس معي فهو ضدي.

أمريكا دولة لا تؤمن بقوة القانون بل بقانون القوة، ولا بالشرعية الدولية أو القانون الدولي فالشرعية والقانون هنا وفق البورد والتصنيف الأمريكي فقط، لهذا فكل مصالح وغايات أمريكا تبررها الوسائل المستخدمة وفق العقلية الأمريكية.

أمريكا بلد خرافات وأساطير وعجائب سترددها الأجيال في زمن العلم والمعرفة وما بعد الحداثة كذلك. وكما وصفها الشاعر العربي العراقي أحمد مطر بالقول:

في الأرض مخلوقان     

إنس وأمريكان

الأمريكان بطبيعتهم شعب حالم ونرجسي يؤمن بالقوة، ويغيب العقل إلى حد بعيد لهذا فهم مهووسون بشخصيات أسطورية من وزن رامبو وسوبرمان ومفتونون بأفلام الحركة والدموية، والرياضات العنيفة كالملاكمة والمصارعة وهوكي الجليد والرجبي، ويُزكون لحكمهم كل من كانت لهم سوابق جرمية في الحروب كحروب فيتنام وكوريا وأفغانستان والعراق وحرب الخليج الثانية.

النرجسية الأمريكية وافتتانهم بالقوة العمياء العارية من كل عقل جعلت شخصا خبيرا بهم كـ "ونستون تشرشل" رئيس وزراء بريطانيا الأسبق يصفهم بالقول: الأمريكان لا يفكرون، بل يجربون حتى يفشلون. الواقع الماثل أمامنا اليوم أكثر جهرًا بماهية أمريكا وهويتها وأهدافها، ويمثل وصول ترامب للسلطة فيها قمة التجلي الأمريكي للعالم باستغلاليه ونرجسيته ورعونته واستعلائه ونظرته الدونية للآخر.

دونالد ترامب ليس خروجًا على النص أو السياق للظاهرة الأمريكية، بل تجسيدًا جليًا للأمركة والأمريكيين بجل أطيافهم ومشاربهم الفكرية والعرقية.

فرغم أنّ الرجل في حملته الانتخابية رفع شعارات تدغدغ مشاعر الناخب الأمريكي وتخاطب وجدانه وعقله الباطن، إلا أنه سرعان ما بان تأثير حكومات الظل من لوبيات ضاغطة ومؤثرة بعد توليه الرئاسة ليظهر للعالم بوجه آخر، وجه يهدد ويتوعد العالم بالخسران المبين ويدشن عهده بالحروب والضربات الصاروخية واستعراض الأسلحة المدمرة والفتاكة. بعد أن كانت حملته وديعة للغاية وترفع شعارات للداخل الأمريكي وأمريكا أولًا وكل ما يوحي بأن عهدته ستكون فترة استراحة من الحروب والمغامرات المسلحة غير المحسوبة. مشكلة ترامب لا تكمن في إظهاره لأنياب ومخالب في وجه من يصنفهم كخصوم لأمريكا، بل في توقيت هذا الاستقواء وفتح الجبهات، في زمن تغيّرت فيه الكثير من قواعد اللعبة والاشتباك على الأرض.

المسرح الرئيس لجهد المعركة القادمة سيكون الوطن العربي وبالتحديد حلف المقاومة، ورغم الانتكاسات المتتالية للأمريكان وحلفائهم في المنطقة إلا أنهم لازالوا يديرون الأزمة بعقلية الأثر الرجعي وبوهم أمريكا القوة العظمى والجيش الذي لا يقهر. لاشك أنّ الطرف الآخر والمتمثل بتحالف المقاومة ورغم سيطرته الميدانية وتحكمه شبه التام في مصير المنطقة ومستقبلها، إلا أنّه سيعيد بعض حساباته ويجدد بعض أوراقه المناسبة للصراع لمواجهة اليأس والقنوط المتلبس بالتحالف الأمريكي والذي قد يدفعه لارتكاب أية حماقة غير محسوبة ليستعيد شيئا من المبادرة ويلتقط بعض الأوراق الساقطة من يديه تحت شعار عليّ وعلى أعدائي.

فعلى الضفة الموازية مجرد ترشح محمود أحمدي نجاد للرئاسة الإيرانية مجددًا تحمل دلالات عميقة ورسائل جلية للغرب عمومًا ولأمريكا على وجه الخصوص بأن زمن الحوار قد ولى وأتى زمن الخطاب الناري ليقول كلمته الفصل والحسم.

فنجاد ليس فردًا بل ظاهرة وثقافة قوية في إيران ولمحور المقاومة وسواء وصل نجاد أو أحد المؤمنين بفكره فإنّ القادم سيكون صعبًا على الغرب ومواجها صلبًا لهم. ففترات حكم نجاد السابقة تزامنت مع عهدي جورج بوش الابن، وجميعنا يعلم بتلك الفترة وما صاحبها من مواجهات واحتلالات وحروب. ومن المعلوم أنّ فترتي نجاد في الحكم هما من أنضجتا قناعات الغرب بضرورة الحوار والتخلي عن سياسة حافة الحرب والاستسلام لطاولة الحوار، فقد نجح نجاد في رفع سقف الأزمة مع الغرب إلى حده الأعلى رغم الحظر القاسي والحصار، كما أرعب الغرب حين حجب عنهم مراحل التخصيب والتصنيع الحربي بسرية تامة.

أمريكا اليوم تختار المواجهة مجددًا على الحوار والقوة على العقل، وتتسلح بنرجسيّة غير مسبوقة في نظرتها لمصالحها ولخصومها معًا معتقدة بأنّ الزمن والظروف لاتزال طوع بنانها ومواتية لها وكما كانت في الزمن القريب. رغم كل مظاهر عجز القوة لديها وكل مظاهر القوة لدى الطرف الآخر، ولعلّ هذه هي الاستراتيجية الخطأ في الزمن الخطأ وفي عهدة الرئيس الخطأ، الذي أراد المجمع الصناعي العسكري الأمريكي أن يحكم به ليعزز من دخوله المالية وعمولات القائمين عليه.

قبل اللقاء: يقول المثل الأمريكي (إذا كنت لا تمتلك سوى مطرقة، فسترى العالم كله مسامير) وهذا ما يملكه ترامب وما يراه على ما يبدو.

وبالشكر تدوم النعم،،،

Ali95312606@gmail.com                                                                

الأكثر قراءة