مزاولة الأعمال وممارسة العمل السياسي

 

عبيدلي العبيدلي 

العامل الأكثر أهمية في مزاولة العمل التجاري، هو درجة ذكاء من يقوم به في اختيار الزاوية التي يلج منها السوق، ويميز من خلالها نفسه عن الآخرين. والتاجر الحاذق، وليس المقصود التاجر "الفهلوي"، هو ذلك الذي لا يتمكن من اختيار المساحة التي تناسبه في موازين السوق فحسب، بل في قدرته على حمايتها والدفاع عنها وزيادة محيطها. يحقق التاجر نجاحات باهرة دون الحاجة للتدليس أو اللجوء للتضحية بقيمه المهنية، وأخلاقه السوقية (من سوق). ويرسم ذلك التاجر، من خلال البحث عن النجاحات وتحقيق الربح، دون التفريط في مقاييس السوق، وقيم المهنة دائرة مميزة ترسخ أقدامه في الأسواق التي يلجها. 

على النحو ذاته يمارس السياسي الناجح، وخاصة من يتبوأ مناصب قيادية، دوره السياسي من خلال نظرة ثاقبة تحدد معالم الإطار الي يتحرك فيه، وشبكة العلاقات التي ينسجها، ودرجة ومستوى التشبيك الذي يحيط نفسه به. يقوم بكل ذلك ويحقق الكثير من النجاحات وهو ممسك بين يديه جمرة ملتهبة تحميه من الانزلاق في طريق لا تقوده نحو الأهداف النبيلة التي وهب نفسه من أجل تحقيقها. 

وتماما، كما انتقلت الأعمال من أشكالها الفردية الضيقة، فجرى مأسستها، وتحولت من مجرد ثروات فردية إلى رساميل مؤسساتية، كذلك تطور العمل السياسي من القيادات الفردية إلى المنظمات الحزبية، من أجل ضمان الجودة في الإنتاج، والاستمرارية في العمل، والتطور في الأداء. وهكذا وجدنا تلك القفزات المتواصلة الثابتة في أشكال العمل السياسي التي لم تكتف بوضع آليات عمل الأحزاب فحسب، بل وسعت من نطاق أنشطة تلك الأحزاب كي تشمل منظمات المجتمع المدني، بمختلف مستوياتها، وألوان أنشطتها، ودرجة تناغمها مع العمل السياسي، دون التفريط في قيمها المهنية. 

ومن الأدوات التي طورتها المؤسسات الأكاديمية للارتقاء بأداء الأعمال هناك ما يعرف باسم (SWOT analysis) وهو عبارة مختصرة تشخص عناصر آليات تحليل الأعمال، من خلال وضع اليد على عوامل القوة (Strength)، ومقارنتها بعناصر الضعف (Weakness)، والتعرف على الفرص المتاحة (Opportunities)، قبل الانتقال إلى مواطن التهديد (Threat). 

ومن أجل العلم بالشيء والإحاطة به فقد بدأ كل ذلك في معهد ستانفورد للأبحاث، في ولاية كاليفورنيا، في أوائل الستينيات. وقد تم إنشاء مركز أبحاث للنظر في المشاكل المرتبطة بوظائف التخطيط المركزية، المعروفة آنذاك كمخطط الشركات. وقد انحرف مسار الشركات الكبرى عن النسق المعتاد لأسباب كثيرة مختلفة ليس هنا مجال سردها، مما دفع رجال الصناعة العمالقة إلى البحث عن نظام تخطيط يمكن استخدامه على جميع المستويات داخل المنظمة، كي يؤدي إلى نتائج متسقة وقوية، تعين المؤسسة على تلمس عناصر القوة لديها من أجل تعزيزها، وتشخيص عناصر الضعف لكي يتسنى لها التخلص منها، أو تقليصها، والبحث عن الفرص المتاحة من أجل الاستفادة القصوى منها، ورؤية الأخطار التي تهددها كي تتمكن من الاستعداد لها والحيلولة دون المعاناة منها. 

وتمارس الشركات الكبرى هذا التدريب، إما عند البدء في التخطيط لمشروع جديد، أو حين تلمس تعثر مشروع قائم، أو الرغبة في تطوير نظام ناجح، أو، وهذا هو الأهم عندما تجد نفسها أمام منعطف حاد فرضته عليها ظروف مستجدة في سوقها الذي تمارس أنشطتها فيه. 

وحدها الشركات التي أحسنت استخدام هذا المنهج وبالمهارات المطلوبة، نجحت في تجاوز الكثير من العقبات التي واجهتها والأخطار التي كادت أن تطردها من أسواقها.  

تجدر الإشارة إلى أن معهد ستانفورد للأبحاث، هو الآخر طور منهجا آخر للتحليل يرشد الشركات كي تحول ضعفها إلى قوة، والمخاطر المحدقة بها إلى فرص، سوية مع تحاشي فقدان مقومات القوة أو تضييع الفرص. 

الأمر ينطبق تماماً في العمل السياسي، فالمنظمات السياسية التي تتمتع بالحيوية والنظرة الثاقبة هي التي تمارس مثل هذا النشاط، المبني أساسًا على معلومات صحيحة وليس على تخمينات موهومة. فنقطة الانطلاق في تلك الآلية هي جمع أكبر كمية من المعلومات، من مصادرها الأصلية، وليس الاعتماد على فرضيات، واهمة، استقيت من خلال مناقشات ذاتية ترتكز إلى معلومات غير دقيقة، وربما مغلوطة، بل من غير المستبعد أنها سربت من أجل غاية غير معروفة. 

فعندما تجد المنظمة السياسية نفسها، تماما مثل مؤسسات الأعمال، أمام منعطف خطير يهدد كيانها من الجذور، ويهدد بطردها من ساحة العمل السياسي، عليها أن تسارع، بعد أن تتحلى قيادتها برحابة الصدر المطلوبة، وبعد النظر الذي لا يستغنى عنه، والحرص على الاستماع للآخرين من الأنصار والمتعاطفين، إلى إجراء هذا التمرين الذي يحدد مكامن القوة لديها، ويتلمس مواطن الضعف الذي تعاني منه، ثم ينتقل كي يشخص الفرص المتاحة أمامها، قبل أن يصل إلى المخاطر التي تتربص بها.  

في خضم قيامها بذلك عليها توخي الحذر من الوقوع في أشراك، ينصبها لها آخرون، وفي مُقدمتها: 

1.  طرد اليأس من أذهانها، ومحاربته كي لا يتحكم في تفكيرها، ومن ثم ينعكس في سلوك أعضائها، ويتسرب من خلالهم إلى أنصارها. 

2.  الإيمان المطلق بأن في جدار كل طريق تبدو مغلقة، هناك ثغرة يمكن النفاذ منها. والقيادة الحاذقة هي التي تقود تنظيمها نحو تلك الثغرة عبر أقصر الطرق، وأكثرها سلامة، وأقلها كلفة.  

3.       أن تاريخ الشعوب، وفي القلب منه تاريخ المنظمات الراغبة في التغيير، لا يقاس بحادثة واحدة استثنائية، ولا بقرار يتيم، بل تكتبه عقود من العمل الدؤوب.  

4.       أن أصدقاء المنظمات السياسية لا يطلون برؤوسهم في فترات الانتصارات التي يهب للاستفادة منها الكثيرون، وإنما عند الأزمات، وأمام المنعطفات الحادة التي لا يهابها الرجال، ولا يخاف من خوض غمار معاركها المؤمنون. 

5.  أن ممارسة العمل السياسي لا يختلف عن مزاولة العمل التجاري، وكما في سوق العمل التجاري هناك التاجر الصدوق، ورجال الأعمال الأمين، كذلك الأمر في ساحة العمل السياسي هناك المناضل الصلب، ورواد السوقين قادرون على التمييز بين الإثنين، وفي الحالتين.