حميد السعيدي
أراد جلالة السلطان قابوس بن سعيد لسلطنة عُمان أن تكون دولة القانون والمؤسسات، ومن أجل تحقيق تلك الرؤية الحكيمة، فعمد جلالته إلى بناء دولة عصرية تنطلق في الفصل بين السلطات الثلاث، السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، والتي بدروها أسست فكرت دولة القانون والمؤسسات، وأتضح ذلك جلياً في العديد من الممارسات التي اختصت بها المؤسسات في القيام بدورها الوظيفي في خدمة المجتمع، وتعتمد دولة المؤسسات على منهجية قانونية واضحة، صاغها المشرع بهدف وجود مظلة قانونية يستند عليها الجميع، بما يحقق العدالة بين الجميع دون استثناء "إن العدل أبو الوظيفة وحارسها، فتمسكوا به وعاملوا الجميع بمقتضاه، وإنني لرقيب على أن يفي كل منكم بهذه الأسس والمعاني، فلن يكون في مجتمعنا مكان لمنحرف أو متقاعس عن أداء واجبه أو معطل لأدائه كما يكون لكل مجتهد نصيب في المكافأة والتقدير والعرفان بالجميل" قابوس بن سعيد 1978م. لذا فإن المنهجية العُمانية تميزت بخصوصية مختلفة قائمة على تحقيق التعاون والتكامل بين مؤسساتها الحديثة بالاعتماد على القانون في تسيير أنظمتها وبرامجها الخدمية بما يعود بالنفع على المواطن والوطن، فتحقيق العدالة هي المنهجية الحقيقية التي ساعدتها خلال عهد النهضة العُمانية أن تكون مؤسسات ناجحة وفاعلة في بناء الوطن.
ويُعد النظام الأساسي للدولة هو الركيزة الأساسية التي تستند عليها الحكومة، فهو الوثيقة القانونية والدستورية التي تمثل الأطر والأنظمة المتعلقة بالجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والديموقراطية في البلد، وقد بنيت هذه الوثيقة بالاعتماد على الفكر السامي لجلالة السلطان قابوس بن سعيد، وعلى الشريعة الإسلامية الغراء، والثقافة المجتمعية للمجتمع العُماني، لذا لا ريب أن تكون هذه الوثيقة ناجحة وفاعلة في تحقيق منظومة دولة القانون والمؤسسات.
وتهدف الدولة إلى الاستفادة القصوى من الكفاءات الوطنية، بما يحقق التنمية الشاملة في مختلف القطاعات، بحيث تحسن الاستفادة من القوى البشرية، والمهارات العقلية، والقدرات البشرية بما يساعدها على تحقيق أهدافها الوطنية، سواء كان ذلك في القطاع الحكومي أو الخاص، كما تهدف إلى فرض ذاتها كقوى منظمة للعمل الإداري قائمة على تصويب وتطوير أداء المؤسسات وفقا لقانون المنظم لها، بما يساعدها على تحسين الأداء وتحقيق الغايات الوطنية، والاستفادة من الإمكانيات المتاحة لخدمة الصالح العام، والتركيز على التطبيق للتشريعات القانونية، مما يحد من قضايا الفساد والتلاعب بالأنظمة من أجل تحقيق المصالح الشخصية.
وانطلاقا من هذه المنهجية القانونية تبرز أهمية تحقيق العدالة الاجتماعية بين المواطنين، وفقا للمنهجية التي صممها باني نهضة عُمان الزاهرة، والتي نصت على أن يحظى كل مواطن بجميع الحقوق والواجبات أمام القانون، إلى جانب حصوله على الحق في المنافسة والتعيين وفقا للكفاءات التي يمتلكها من مبدأ القانون الذي ينظم كل ما يتعلق بالأنظمة الخدمية والوظيفية، فجميع المواطنين سواسية أمام القانون، ويمتلك الحق في الحصول على جميع الخدمات التي حددت له وفقا لتوصيفها، وكذلك الحصول على الوظيفة بناء على القدرات والإمكانيات التي يمتلكها، دون أن يكون هناك تأثير خارجي غير منظم يخترق منظومة القانون ويؤثر على تطبيق الأنظمة والقوانين، وفي ظل هذه المنظومة القانونية لا يمكن أن يحصل مواطن على استثناء دون وجه حق ومخالف لتلك الأنظمة التي شرعها المشرع.
ويؤكد النظام الأساسي للدولة على مجموعة من الواجبات والحقوق لجميع المواطنين، فالمادة (17) تنص على أن جميع المواطنين سواسية أمام القانون، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، أما المادة (12) فتنص على أن الوظائف العامة خدمة وطنية تناط بالقائمين عليها، والمواطنون متساوون في تولى الوظائف العامة وفقا للشروط التي يقررها القانون، وغيرها من المواد التي نصت على جانب مهم جداً وهي حقوق المواطنين وواجباتهم ينظمها القانون.
إلا أن هناك اليوم الكثير من المخالفات التي أصبحت تؤرق الجميع، وتشكل هاجساً وطنياً لأنها تؤثر على القوانين والأنظمة، فحصول بعض المواطنين على استثناءات في الحقوق والواجبات دون غيرهم يُعد مخالفا للأنظمة والقانون، مما يحدث فجوة كبيرة، ويسبب الضغائن والأحقاد بين أفراد المجتمع، ويفقد الوطن للكفاءات المخلصة والتي يفترض أن يتم الاستفادة منها من أجل تحقيق رفعة ومكانة هذا الوطن، ولا أود التطرق للكثير من القضايا الشائكة ولكن الحديث عن بعضها يتيح المجال لمعالجتها وفقا للمنهجية التي ارتكز عليها بناء هذه الدولة العصرية، فكيف ينتظر بعض المواطنين لفترة زمنية تتجاوز العشر سنوات للحصول على أرض سكنية، في حين أن هناك من يحصل على استثناء ليكون لديه أكثر من أرض سكنية، وهناك من ينتظر لأشهر للحصول على موعد بالمستشفى، في حين أن البعض يسافر من أجل إجراء الفحوصات الدورية، هذا مثال بسيط للعديد من الاستثناءات التي تخالف القوانين والأنظمة، على في قطاع الإسكان والصحة، أمّا القطاع الأهم وهو الوظائف الحكومية والتي يفترض أن يتم التعيين فيها وفقا لمبدأ تكافؤ الفرص والمساواة، بما يتيح الاستفادة من الكفاءات الوطنية والقدرات البشرية المتميزة، والتي تستطيع أن تصنع مستقبلا رائدا في الوطن، تجد أن هناك بعض الوظائف التي يتم استثناؤها من القانون، ويتم التعيين فيها دون إعلان، ودون فتح باب التنافس عليها وفقا للشهادات العلمية أو غيرها من متطلبات المنافسة على الوظائف، ويأتي من المسؤولين من يوظف وفقا لرؤيته وقوانينه الخاصة، وهنا تكون الخسارة كبيرة للوطن، لأنّه يفقد البناء الحقيقي له، لذا فما نشاهده اليوم من إخفاقات دليل على أننا ابتعدنا عن التوظيف الحقيقي للقوانين.
فالمواطن اليوم يبحث عن الاستثناء في كل شيء، الاستثناء من الدور لانتظار الحصول على خدمة معينة، الاستثناء في تمرير معاملة غير مستوفية الشروط، والاستثناء من تطبيق الأنظمة والقوانين عليه، الاستثناء من المنافسة على التعيين في الوظائف الحكومية والخاصة، والاستثناء من المنافسة في الترقية الوظيفية، والاستثناء في المنافسة على المشاريع الوطنية، مما يقودنا إلى ظهور مفهوم جديد في المواطنة هو "مواطنة الاستثناء"، والتي لا وجود لها إطلاقا في منهجية المواطنة وأدبياتها، إلا فوق منضدة بعض المسؤولين، لذا فإنّ جلالة السلطان قابوس بن سعيد، قد تنبه لهذا الأمر وأصدر مرسوما سلطانيا رقم (91/ 99) بإنشاء محكمة القضاء الإداري، والتي تختص في النظر في الخصومات الإدارية، والمتعلقة بالدعاوى التي يرفعها الموظفون تجاه مؤسساتهم، وبكل ما يتعلق بالقرارات الإدارية النهائية، وإنشاء هذه المحكمة دلالة على أن هناك استغلال للسلطة من قبل بعض المسؤولين والإداريين لتحقيق مصالح تضر بالمواطن، فهذه الدولة العصرية التي بناها جلالة السلطان قابوس قائمة على تكافؤ الفرص، وتساوي الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين، فإذا كنتم تؤمنون إيمانا عميقاً بحبكم لهذا الوطن، فلا تكونوا معول هدم لما تمّ تحقيقه، يحدث الحقد والبغضاء بين المواطنين، كونوا قضاة عادلين في إصدار قراراتكم، فهذا الوطن أمانة في رقابكم أمام الله والوطن والسلطان إلى يوم الدين.