آفاق فكرية (6)

الحداثة والتراث

د. يحيى الريامي

**خبير في شؤون الملكية الفكرية
**المرجع أطروحة الدكتوراه (الملكية الفكرية والحماية القانونية للمعارف التقليدية الموروثة - التحديات والحلول)


نسمع من حين لآخر أصواتاً تضع- بصورة أو بأخرى- "الاشتغال بالتراث" موضع السؤال: لماذا كل هذا الاهتمام بالتراث ألا يتعلَّق الأمر بردة فكرية، بل هناك من يذهب إلى حد القول بأنَّ الأمر يتعلق بظاهرة مرضية بـ" عُصاب جماعي" أصاب المُثقفين العرب بعد نكسة 1967 فارتدوا ناكصين إلى الوراء إلى "التراث"، والذين يقولون هذا يشتكون من أنّ الاهتمام بالتراث وقضاياه يصرف عن الاهتمام بـ " الحداثة" ومتطلباتها. إنِّهم يرون أو يتخيلون أن التراث العربي الإسلامي هو ككل التراث مُجرد بضاعة تنتمي إلى الماضي ويجب أن تبقى في الماضي وبالتالي فلا يشتغل بها – إذا كان ولا بد – إلا المختصون الأكاديميون في دراسة شؤون الماضي، وفي هذه الحالة يجب أن ينحصر الاهتمام به في إطار قاعات الدرس الجامعي وصفحات المجلات العلمية المختصة وحدها. وبعبارة أخرى أن هؤلاء المشتكين من اهتمام المُفكرين العرب المعاصرين بالتراث، هذا الاهتمام الزائد يعتقدون أنَّ ذلك إنما يتم على حساب الاهتمام بالحداثة.
إن ما يُميز الثقافة العربية منذ عصر التدوين إلى اليوم هو أنَّ الحركة داخلها لا تتجسم في إنتاج الجديد بل في إعادة إنتاج القديم، وقد تطورت عملية الإنتاج منذ القرن السابع إلى تكلّس وتقوقع واجترار فتفشى فيها "الفهم التراثي للتراث" وهو الذي مازال سائداً حتى اليوم. إنَّ متطلبات الحداثة تجاوز هذا الفهم إلى فهم حداثي ورؤية عصرية، فالحداثة لا تعني رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما يسمى "بالمعاصرة" أي مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي. وإن من شأن الحداثة أن تبحث عن مصداقية أطروحاتها في خطابها نفسه، خطاب "المعاصرة" وليس خطاب "الأصالة" الذي يُعنى بالدعوة إلى التمسك بالأصول واستلهامها. الحداثة في الفكر العربي المعاصر لم ترقَ بعد إلى هذا المستوى بسبب تأثرها الشديد بالحداثة الأوروبية، والتي يُمكن أن نعتبرها حداثة عالمية ولكن فإنَّ مجرد انتظامها في التاريخ الثقافي الأوروبي- ولو على شكل التمرد عليه – يجعلها حداثة لا تستطيع الدخول في حوار نقدي تمردي مع مُعطيات الثقافة العربية لكونها لا تنتظم في تاريخها. فطريق الحداثة في الثقافة العربية كما صورها الكاتب ينطلق من الانتظام النقدي في الثقافة العربية نفسها وذلك بهدف تحريك التغيير فيها من الداخل، ولذلك كانت الحداثة بهذا الاعتبار تعني أولاً وقبل كل شيء حداثة المنهج وحداثة الرؤية، والهدف: تحرير تصور "التراث" من البطانة الإيديولوجية والوجدانية التي تضفي عليه طابع العام والمطلق وتنزع عنه طابع النسبية والتاريخية.
ما زال مصطلح "ما بعد الحداثة" حتى الآن يُثير الكثير من الغموض والإبهام وربما الالتباس فيما نعني به، فهل هو آيديولوجي أو نظرية اجتماعية واتجاه أدبي نقدي، أم هو مشروع تحرر فكري وعملي نشأ من رحم مشروع الحداثة على حد تعبير "هابر ماس"، والذي يمكن إعادة أصوله إلى فلسفة "نيتشه" التشاؤمية، ومثلما انشغل مفهوم الحداثة بالحركة الجمالية التي تجلّت في القرن العشرين أو قبله بقليل وظلّ فضفاضاً ولزجاً، فإنَّ ما بعد الحداثة هو الآخر يحمل ذات الاتساع والشمول، وقد تجلّت أفكار الحداثة بشكل خاص في الفنون البصرية والموسيقى والأدب والدراما، التي تجاوزت المعايير الفكتورية للفن من حيث استهلاكه وقصديته، الاّ أن الحركة امتدت لتشمل حقولاً واسعة من الشعر إلى الرواية.
هناك من يعتبر تيار ما بعد الحداثة هو بداية لعهد جديد حيث انتهت السرديات الكبرى لجميع المذاهب والفلسفات الكبرى التي سعت لتفسير العالم على نحو شمولي، وهذه المذاهب كبّلت الفكر وساهمت في حجره في إطار ضيق، الأمر الذي ساهم في انتهاك حقوق الإنسان، خصوصاً بادعاء احتكار الحقيقة. وهكذا فإنَّ التنوّع والتعددية والاختلاف والتفكيك واللاتحديد من سمات عهد ما بعد الحداثة، الذي يسعى لتجاوز التصورات العقلية بما فيه الذات العاقلة التي أرسى دعائمها "ديكارت" وصولاً إلى كانط حيث تمتاز أفكار ما بعد الحداثة بنقد الأساس العقلاني والذاتي للحداثة ذاتها، ويعتبر المُفكر "آلان تورين" أن فكر ما بعد الحداثة يُشكل قطيعة مع أفكار الحداثة، حيث المجتمعات الصناعية المتضخمة التي لا تكفّ عن التسارع والاستهلاك الثقافي، فإذا كانت الحداثة قد استدعت سلطات مُطلقة، فإنَّ هذه السلطات تفككت في عهد ما بعد الحداثة، بحيث شكلت قطيعة أخرى مع النزعة التاريخية عن طريق إحلال التعددية الثقافية محل الوحدة، وهو ما أعطى سوق الفن أهمية جديدة، بحيث انتصرت المؤسسات الإنتاجية والاستهلاك على الأمة.
لذلك لا يُوجد تعريف جامع مانع لما نعنيه بالمفهوم، كما أنَّ تحديده يفقده الكثير من معانيه المفتوحة ويدخله في إطار نَسَقي، لاسيما متى دخل "حيّز التنفيذ" كما يُقال في القانون، ثم متى بالضبط كانت استخداماته قد بدأت مُتقطعة أو مُتصلة، خصوصاً وهو يتداخل ويتراكب ويتخالق مع مفهوم الحداثة ذاتها، التي ما تزال الكثير من الشعوب والأمم عند عتباتها الأولى أو ربما لم تلجها بعد، رغم أن أشكال التعبير عنها قد تبلورت في مطلع القرن الماضي، لدى شعوب وأمم أخرى وسادت عالمياً، الأمر الذي يجعل المفهوم ضبابياً، خصوصاً لجهة ارتباطه بالحداثة ذاتها التي ما تزال سارية المفعول، حيث يتقاطع النظام الرقمي (الديجيتل) بالثقافة والفلسفة بالسياسة، والفن بالتجارة، والدين بالسلطة، ولقد أستند مفهوم ما بعد الحداثة في ظل العولمة، خصوصاً في الطور المتقدم الجديد من الثورة العلمية التقنية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والثورة الفضائية إلى قاعدة جوهرية تقوم على التعددية، باعتبارها دستوراً ناظماً للمجتمعات بالمعنى والنموذج ولا ينفصل عن الديمقراطية، والتنوّع وجدل الهويات.
وهكذا، فإنَّ ما أفرزه عهد ما بعد الحداثة رغم أنه في بداياته، إنما يعكس تعديلات علمية ومخططات حياتية ونماذج سلوك جديدة، وهذه تشكل الوجه المغاير للأنظمة التوتاليتارية (الشمولية)، لأنها ضد جميع أوجه التسلط والاستبداد القديمة والجديدة، ولهذا فإنَّ صعوبة تحديد المفهوم زمانياً ومكانياً وتاريخياً ستظل سمة بارزة له، إلا إذا أخذنا الانعكاسية ووعي الذات في تحديده من خلال رأسمالية السوق وبخاصة المتعددة الجنسيات في ظل تعددية عصرانية واجتماعية وتشكيلات علمية ومخططات حياتية ونماذج تعتمد على التنوّع وتقف بالضد من السيطرة والتسلط، وهو الأمر الذي يبرز من خلال تطور العالم عبر وسائل الإعلام والاتصال وظهور وانبعاث الثقافات المحلية وصعود فكرة الهوية وإضفاء التعددية الثقافية على مجتمعات واحدية، سواءً بقبول فكرة التنوّع أو بانفصال حركات وكيانات وتوزّعها على دول ومُجتمعات، وذلك عبر تطور كوني قاد إلى مُجتمع صناعي متضخم والقطيعة من النزعة الثورية وحلول التنوّع الثقافي ومن ثمَّ ظهور سوق الفن.
إنَّ خطاب ما بعد الحداثة يحاول إيجاد قيم جديدة وبديلة عن مبادئ العقلانية والتنوير، لاسيما ببروز التعددية والاختلاف وتنامي الهويات القومية والفردانية وبحرية الاعتقاد والملبس والمأكل وأشكال الممارسات اليومية بالضد من وحدة الهوية، الأمر الذي يطرح أسئلة ساخنة وحادة حول المفهوم ومصيره شكلياً وموضوعياً ومع أن وسائل الاتصال الإلكتروني والإنترنت وغيرها قد جعلت العالم كله قرية واحدة، لكن مُجتمع ما بعد الحداثة لم يزل هلامياً رغم وسائل التعبير الهائلة عنه، خصوصاً فيما يتعلَّق بالقيم الإنسانية والعقلانية وصراع الحضارات وصدام الهويات، ولعل ما كانت تتعرض له فكرة الحداثة من نقد إيجابي وسلبي هي نفسها التي تتعرض لها فكرة ما بعد الحداثة.

[email protected]