عيسى بن علي الرواحي
لا يختلف اثنان في أنَّ واقع الواجبات المنزلية اليوم اختلف كثيرًا عما كان عليه بالأمس؛ سواء من قِبل المُعلم أو الطالب أو الأسرة وعلى إثر ذلك كان لهذا الاختلاف حسب وجهة نظري آثار كبيرة.
لقد كانت الواجبات المنزلية يوم كنَّا طلابًا ذات ثقل كبير في العملية التعليمية، وكان عهد الجميع بها يتسم بالقداسة والاهتمام والنظرة الجليلة، وكنَّا نحسبها بل نرى أنها ذات قيمة كبيرة وأهمية بالغة في التحصيل الدراسي، وكانت جزءًا أساسياً من عميلة التقييم للطالب، وقياس اهتمامه بالدراسة، ومدى حرصه على فهم ما يتلقاه من دروس وحفظها.
وكانت درجة اهتمامنا بالمادة الدراسية تزداد بزيادة الواجبات المنزلية التي يُعطيها المعلم لطلابه. ولما كان أغلب المُعلمين إن لم يكن أجمعهم يكلفون طلابهم بالواجبات المنزلية؛ فإنَّ المرابطة اليومية المنزلية مع الكتب والدفاتر أمرٌ لا بد منه، مع العلم بأنَّ درجة الحرص على حلها والاستعداد للحصة الدراسية القادمة مرهون بدرجة مُتابعتها من قِبل المعلم، وقلَّ من كان لا يهتم بمُتابعتها من المُعلمين.
ولم نكن ننسى أنَّ هناك من المُعلمين من نعمل لهم ألف حساب في حال أهملنا الواجب المنزلي أو لم نقم بحله، فربما كان الغياب أهون علينا من حضور الحصة الدراسية بواجب منزلي غير مؤدى.
ونكاد كلنا نتذكر أنَّ دفتر المادة مقسوم إلى قسمين، قسم لما نكتبه داخل الفصل الدراسي، وقسم للواجب المنزلي، وفي أحيانٍ كثيرة كانت طائفة كبيرة من المُعلمين لا يكتفون بذلك؛ فيطلبون منِّا تخصيص دفترين، دفتر للنشاط الصفي، ودفتر للواجبات المنزلية؛ إذ كانت النظرة حينها للواجبات المنزلية ليست ضيقة محدودة في كونها لتحصيل الدرجات فحسب؛ وإنما كونها جزءا من العملية التعليمية وكسب المعارف، ورفع المستوى التحصيلي للطالب، وإكسابه مهارات التعليم المُختلفة من الكتابة والقراءة والحفظ والفهم وغيرها.
ولست أخفي بأنَّ هناك من المعلمين سابقاً من كان يستخدم الواجبات المنزلية كلون من العقاب أو تحدياً لبعض الطلاب، ولكن ذلك لم يكن يؤثر سلبًا على وضع الطلاب وتعاملهم معها؛ فقد كان عقاباً أعقبته ثمارٌ طيبة، وتحدياً صنع طلاب علم مقتدرين، بل إنَّ النتيجة متحققة من التكليف بالواجبات المنزلية وإن لم يقم الطالب بأدائها وحلها على الوجه الصحيح، فمن خلالها يسعى ويجتهد لمعرفة الإجابة، ويستذكر ما أخذه في الحصة الدراسية، وأما في حال لم يقم بأدائها دون أيّ محاولة فإنِّه سينال جزاءه نظير إهماله وتقصيره، وتلك العقوبة التي ينالها في حد ذاتها تعد تأديبًا له، وتعلمه درساً في قادم الأيام في عدم التقصير والإهمال.
لقد كانت بداية الحصة الدراسية في أغلب الأحيان تُشكل لحظات فارقة في وضع الطلاب داخل الفصل، وكانت تجعل الطلاب بين مُترقب لها ينتظرها بفرحة وشوق عندما يوقن أنَّه قام بحل الواجب المنزلي بإتقان، فيما كان بعض الطلاب يرقبونها بخوف ووجل؛ إذ كيف سيواجهون المعلم عندما يكتشف أنَّهم لم يقوموا بحل الواجب المنزلي.
أما المصيبة الأكبر تجاه الطلاب الذين قد تتكرر عندهم حالات إهمال الواجب؛ فكيف سيواجهون حينها المعلم؟ وما عذرهم؟
لا ننكر أنَّ تلك الدقائق القصيرة قد تجعل من الطلاب يبحثون عن الحيل والمراوغات وقد يختلقون الأكاذيب والأعذار الواهية في عدم حلهم للواجب المنزلي، وقليل من يصدق القول في عدم حله للواجب المنزلي، فما أكثر تكرار تلك العبارة الواهية حينها "حليت الواجب ونسيت الدفتر في البيت" ، فهذه العبارة وإن صدقت، فهل سيُصدقها المعلم؟!
إنِّها حيلة يحتالها الطالب أمام مُعلمه، وإن تغافل فقبلها في المرة الأولى، فهل يستطيع الطالب أن يُكررها ثانية مع المعلم نفسه؟!
وفي حقيقة الأمر؛ فإنَّ من نجا بالحيلة من إهماله الواجب، أو بعفو المعلم، فإنِّه سيحرص على ألا يقع ثانية في نفس المأزق وخفقان القلب، فالويل له إن تكرر هذا الموقف!
هذه المُتابعة من قِبل المُعلم للواجبات المنزلية، ومحاسبة المقصرين عليها، قد خلقت في حقيقة الأمر تنافساً كبيرًا بين الطلاب في حلهم للواجبات المنزلية، وأبرزت فروقاتهم الفردية التي كان يحرص بعض المُعلمين على إبرازها من خلال تنويع الواجبات، ومع مراعاته لتلك الفروق الفردية بين أبنائه الطلاب؛ سيجعل من الواجب المنزلي تنمية لقدرات الطلاب المتفوقين، وأخذاً بأيدي الطلاب ضعيفي المستوى التحصيلي.
وإذا كان الطالب يواجه حساباً وعقاباً على إهماله الواجب المنزلي داخل المدرسة، فكيف به الحال إن وصل الأمر إلى أسرته؟!
نعم فالويل له من أسرته إن جاءهم النبأ بإهمال ابنهم للواجبات المنزلية، ولربما اكتشفت الأسرة ذلك بما يخُطه قلم المعلم على كراسة الطالب بكتابة تلك العبارة الاستفهامية الاستنكارية المشهورة " أين الواجب ؟!".ولذا فقد كانت الكراسات تحظى باهتمام بالغ من قبل الأسرة في مُتابعتها.
ومن خلال ما تتضمنه تلك الكراسات من واجبات منزلية يعرفون مدى التزام ابنهم بعد تصويبها من قبل المعلم.
وعندما يوقن الطالب أنَّ واجباته المنزلية تعقبها مُتابعة ومحاسبة من قبل الأسرة والمدرسة؛ فإنَّ عقله لا يسمح له بالتسويف والإهمال، وإلا فلينل جزاءه.
لقد كانت الأسرة أكثر ما تحرص عليه هي مُتابعة الواجبات المنزلية، ومعرفة مدى التزام ابنها بأدائها؛ ولذلك كان للواجبات المنزلية دور كبير في ربط الأسرة بالمدرسة، ما دامت محل اهتمام ومُتابعة من قبل ولي الأمر في البيت، ومحل اهتمام ومُتابعة من قبل المعلم في المدرسة.
وبقدر ما كنَّا نسعد بإجازة الأسبوع، ونفرح كثيرًا بالإجازات الأخرى كإجازات المُناسبات الإسلامية والوطنية؛ فإنَّ هناك حملًا كبيرًا وكما هائلاً من الواجبات المنزلية يصحبنا طيلة تلك الإجازة؛ ولم تكن مقتصرة على حل المسائل والتدريبات فحسب، فما أكثر دروس القراءة والمطالعة والقصائد الشعرية التي قُمنا بنسخها مرات عديدة!
هذا النهج من الواجبات المنزلية يكاد يصبح اليوم معدومًا، كما أن النظرة التربوية إليه بهذه الطريقة ليست إيجابية؛ إذ إنَّ ذلك في نظر بعض التربويين قد يكره الطالب في المادة العلمية، كما يُعتبر عقابًا للطالب أكثر من كونه تعليماً وإفادة، أضف إلى ذلك أن مثل تلك الواجبات من النسخ قد لا تؤدي نتائج مذكورة في رفع مستوى التحصيل الدراسي.
ومع احترامنا لكل وجهات النَّظر؛ فإنَّه في نظرنا أيضاً أنَّ ذلك الثقل الكبير من الواجبات المنزلية التي ألفناها سابقاً قد حقق نتائج كثيرة؛ فهي وقاية وعلاج لكثير من المشاكل التعليمية التي تواجه طلاب اليوم كظاهرة الضعف القرائي والكتابي وسوء الخط.
كما أنَّها قد عودت الطالب تنظيم وقته وتحمل المسؤولية في أداء المهام والواجبات، والاعتماد على نفسه فيما يقوم به من واجبات، والاستعانة بالآخرين في حال احتاج إلى غيره في حل المسائل الصعبة، أضف إلى ذلك العلاقة الحميمة بينه وبين كتبه الدراسية داخل المنزل كما أشرت آنفًا... وللحديث بقية في مقالنا القادم بإذن الله تعالى.