القيادة الملهمة والربان الماهر

عبيدلي العبيدلي

تُعلمنا دروس التَّاريخ، وهي غنية ومُلهمة مجموعة من الدروس، أولها أنَّ الصراع السياسي ليس خطاً مستقيمًا، بل هو خُطوط مُتعرجة ملتوية، تنبع تعقيداتها من كونها ذات أبعاد مُتعددة ليست أحادية كما يتوهم البعض، وثانيها أنَّ القيادة السياسية المُحنكة وحدها القادرة على الأخذ بيد تنظيمها، ليس في مراحل الهدوء، والدعة، وإنما في فترات الهيجان، وقطع الطرق ليست السهلة المنبسطة بل تلك المُتعرجة ذات المُنعطفات الحادة، وثالثاً، وليس أخيرًا أن كتابة تاريخ الشعوب، ليس محصورة في فترات قصيرة محددة، بل هي سجل متواصل ومتكامل يحكي ذلك التاريخ، ويدون أحداثه بصدق وشفافية، ولحقب طويلة.

والقيادة الحكيمة هي تلك القادرة على الاحتفاظ بتوازنها، والتحكم في بوصلة سيرها وسط الأنواء العاصفة. وهي كي تنجح في الوصول إلى ذلك تجد نفسها موضوعية، وكما تعلمنا دروس التاريخ أيضا مطالبة بتحديد دقيق وصحيح لمجموعة من القضايا يمكن رصد الأهم بينها في النقاط التالية:

الأول منها هو الثقة بالنفس، والثقة هنا ليست سلوكاً فردياً فحسب، بل هو أيضًا قيمة جماعية. والمقصود هنا هو قدرة القيادة على إشاعة نوع راق من السلوك الديمقراطي الحزبي القادر على زرع ثقة الأعضاء في بعضهم البعض، وقبول كل منهم، بشكل واعٍ وصادق بما يطرحه الآخر، الذي ربما يشكل – أي ما يطرحه هذا الآخر- تهديدا حقيقيا لما يؤمن به هو أو يناضل من أجل تحقيقه. الأمر هنا يحتاج إلى فرض مساحة واسعة من "طولة البال" القادرة على فرض سلوك الاستماع للآخر في صفوف أعضاء التنظيم كافة. هذه الحالة من القبول بالآخر ليس مطلباً شكلياً بل، إن أريد للقرار أن يكون صائبا والسياسة سليمة، أن يتحول إلى سلوك جماعي حقيقي ينبع من قناعة مطلقة، ويكرس قيماً حضارية. أمامنا تجربة البحرين الغنية في انتخابات المجلس الوطني في السبعينات من القرن العشرين، التي ما تزال تلح علينا من أجل إعادة قراءتها في صفوف من دعوا للمقاطعة، أو من قبلوا بالمشاركة، على حد سواء.

الثاني منها هو تحديد الهدف الإستراتيجي المرحلي بشكل واضح وجلي يميزه عن سائر الأهداف الثانوية الأخرى، وتركيز الجهود عليه دون بعثرتها في تلك الأخرى. ونجاح هذه المهمة مربوط بمجموعة من العوامل المرتبطة بشكل وثيق بأخرى غيرها من بينها أن يكون قرار تحديد الهدف في تلك المرحلة مبني على معلومات دقيقة، وليس فرضيات مسبقة. فالعمل السياسي، وخاصة في مجتمع ديناميكي سياسياً مثل المجتمع البحريني، يتطلب آليات من طراز راق قادرة على الوصول إلى المعلومة الصحيحة في الوقت المناسب كي يتم قراءتها على نحو سليم، تعين على تحديد الهدف بشكل صائب. على سبيل المثال قد تقفز ضرورة الاحتفاظ بشرعية عمل التنظيم إلى رأس قائمة الأهداف في مرحلة معينة، في حين كانت في أسفل عتبات سلم الأولويات في مرحلة أخرى.

الثالث منها، القراءة السليمة لخارطة العمل السياسي، وتشخيص دقيق لمكوناته الرئيسة، من خلال قراءة حصيفة للحيز الذي تحتله كل قوة من القوى، سواء تلك الصديقة أو المنافسة لها، أو المتصادمة معها. مثل هذه القراءة، كي تأتي استنتاجاتها صحيحة، لا بد لها أن تقوم على معلومات مستقاة من مصادر موثوقة، لا تحتمل الخطأ أو التشويه، من قريب أو بعيد. وتتكرس الثقة في سلامة المعلومات من خلال منطقية قنوات الوصول لها، وأدوات تجميعها، وطرق الربط فيما بينها، قبل الوصول إلى مرحلة التحليل التي تقود في نهاية المطاف إلى صواب أو خطأ القرار المُتخذ. أي خلل في أيّ من الخطوات الأولى التي تسبق الوصول إلى الاستنتاجات من شأنها تشويه تلك القراءة، ومن ثم حرف مسار خطوات من استخدم آلاتها وعمل بها. على سبيل المثال قد يتراجع الحيز الذي تحتله قوة معينة، وعناصر القوة التي بين يديها، مقابل صعود قوة أخرى واحتلالها في تلك المرحلة إلى حيز أكثر اتساعًا، حتى مما تتصوره هي عن نفسها.

الرابع منها، هو التمرد على القبول بما يبدو وكأنه مسلمات، قائمة على فرضيات مُسبقة. فأهم ما تولده الظروف الصعبة المعقدة هو حقائق جديدة مؤهلة لنسف تلك المسلمات، التي ربما تكون سديدة لكن صحتها نابعة من ظروف مُختلفة وأجواء متباينة. والتمرد لا يعني الرفض العشوائي الأهوج، إن جاز التعبير، بل يدعو إلى التمعن والتمحيص. فما كان قائمًا في ظروف معينة قد يصبح ملغيًا في ظروف أخرى ليست مشابهة. وما كان سياسة محرمة في مرحلة معينة قد يتحول إلى سلوك مباح في مرحلة مختلفة. وما يعتقد البعض أنّه انتهاك لقيم التنظيم، وتفريط في نقائه، في ظروف معينة، يفرض نفسه كضرورة لا تقبل المساومة في اللحظات التاريخية الأخرى. على سبيل المثال، تحول العمل السياسي في البحرين من إطاره السري إلى طبيعته العلنية نسف الكثير من القيم والمفاهيم التي فرضتها مرحلة الأول، وتطلبتها قوانين الثاني.

نسوق هذه النقاط الأربع، ونقوم بعرضها، في ضوء قراءة هادئة لمكونات ساحة العمل السياسي في البحرين، والتي ستترك نتائج نشاط مكوناتها الرئيسة علاماتها على مستقبل البحرين السياسي لفترة طويلة قادمة. فأي قرار يقدم عليه أيٌّ من هذه المكونات، من شأنه أن يضع سفينة العمل السياسي على طريق يصعب إعادة توجيهها للخروج منه.

وهذه المرحلة الحرجة والدقيقة من تاريخ البحرين المُعاصر، تحتاج أكثر ما تحتاج إلى ربان ماهر مؤهل لأن يقود سفينته إلى شاطئ الأمان بأقل الخسائر المُمكنة، وقائد ملهم بوسعه أن يحقق أهداف مشروعه السياسي دون الحاجة إلى تقديم تضحيات هو أكثر العارفين بأنَّها لم تعد ضرورية.

مكونات العمل السياسي بحاجة إلى ذلك الربان، وعليها أن تبحث عن ذلك القائد.