المواطنة الرقمية

حميد بن مسلم السعيدي

أصبحت تقنية المعلومات والاتصالات جزءا أساسيًا من حياتنا، ولا يستطيع الفرد اليوم الاستغناء عنها، لما لها من دور رئيسي مؤثرٍ في كافة قطاعات الحياة، فقد ساعدت هذه التقنيةُ على انتشار المعرفة، وأثرت في التبادل الاقتصادي، كما ساهمت في تطوير التعليم، ولها دور رئيسي مؤثر في قطاع الصحة، وأصبح الفرد ينجز الكثير من أعماله من خلال الاعتماد عليها، حتى أنها أصبحت الوسيلة الأساسية في عملية التواصل الاجتماعي، مما أتاح فرصه لدخول بوابة العالم والتواصل مع كافة الأعراق والأجناس والتعرف على شتى الثقافات.
لذا فقد طغى استخدام الانترنت على حياتنا، حتى أصبحنا لا نستطيع الاستغناء عنه، مما يضعنا أمام العديد من التحديات التي يجب أن نتعامل معها بناء على مجموعة من الأطر الذي يجب أن يضعها المشرع، من أجل حماية الجميع من التعرض للجانب المظلم من هذه التقنية، وهذه الحماية التي يجب أن تأخذ عدة أبعاد تعمل على تكامل الجهود في بناء الوعي الحقيقي تجاه استخدام التقنية الحديثة مما يقل من أضرارها السلبية على المجتمع، لذا فقد ظهر ما يسمى بمصطلح "المواطنة الرقمية" في التسعينيات من القرن العشرين.
وبالرغم من حداثة هذا المفهوم إلا أنّ الأحداث الأخيرة والتي كشف عنها الإعلام الاجتماعي، يعني مؤشرات على حجم وتنوع أساليب الإجرام التقني والتي أصبح يعاني منها الجميع دون استثناء، مما يضعنا أمام قضية جديدة متطورة في مجال الإجرام، ويعود السبب الأول لقلة الوعي بالاستخدام المناسب للتقنية الحديثة في ظل الأنظمة والقوانين التي تنظم عملية استخدام التقنية الحديثة في مجال التواصل الاجتماعي، وكبر حجم الإحصائيات يضعنا في موقف قد نكون سببا في حدوثه، نظرا لتأخر الصحوة في هذا المجال، والذي يفترض أن تكون المؤسسات المعنية بذلك سواء كان الجهات الأمنية، أو مؤسسات المعنية بدعم المجتمع كالمؤسسات التربوية، والدينية، والاجتماعية، أنّها أخذت على عاتقها القراءة المستقبلية للواقع التقني.
فالمواطنة ليست منهجا يدرس، أو وحدة تدرج ضمن كتاب، وإنّما هي أسلوب حياة قائم بالاعتماد على بناء مجتمع يمارس السلوكات الإيجابية وفقا لما يقتضه الواقع المعاش، والذي يعتمد على الالتزام بالقوانين والأنظمة التي وضعها المشرع، وممارسة السلوكات التي يقرها العرف المجتمعي، وحينها نكون قد وصلنا بالمجتمع إلى مستوى راقٍ من تبني فكر المواطنة، فعندما يكون الشأن العام يشغله الحديث عن أحدى القضايا الشائكة بالمجتمع فعلينا العودة لقراءة المواطنة، وننظر في الواقع بفكر ناقد لنبحث عن الخلل في أنفسنا حتى نستطيع معالجة مشكلاتنا، لذا فإنّ قضية الابتزاز الإلكتروني التي كان لها شأن في الاهتمام المحلي؛ يعود بنا إلى مصطلح المواطنة الرقمية، حينها ندرك جيّداً مستوى الوعي الذي يمتلكه المجتمع بكافة فئاته تجاه كل ما يتعلق بالتقنية الحديثة، فإذا كنا ننظر للمواطنة على أنّها سلوك إيجابي نتيجة لامتلاك الفرد للمعرفة، فإنّ هذا السلوك بحاجة إلى قواعد وأنظمة تساعده بحيث يصبح سلوكا مناسبا، لذا جاء مصطلح المواطنة الرقمية بحيث تصاغ القوانين والأنظمة التي تؤطر سلوك التعامل مع التقنية الحديثة، حتى يحقق الاستخدام الأمثل للتقنية بناء على الأنظمة والقيم الدينية والمجتمعية التي يستند عليها الفرد في حماية نفسه من التعرض إلى المشكلات الناجمة عن الاستخدام الخاطئ للتكنولوجيا، وتوجيهه لتوظيفيها في حياته بما يحقق الفائدة دون أحداث الضرر على نفسه أو الآخرين.
لذا فإنّ المجتمع بحاجة إلى الوعي بالمواطنة الرقمية بدءا من المؤسسة التربوية الأولى وهي الأسرة كونها يقع عليها عبء النشأة الأولى، فالطفل يتعلّم في البيت من خلال الممارسة، فما يشاهده من سلوك ينعكس على حياته الخارجية، لذا فإنّ دور الأسرة مهم جداً في أن يكون ولي الأمر على وعي باستخدام التقنية وإظهار الجانب الإيجابي من هذه التنقية لأبنائه، وفي ذات الوقت يعمل على ممارستها كسلوك بما يشعر الأبناء بأهميتها في حياتهم اليومية، ثم يأتي دور المدرسة والتي تتولى الدور المعني ببناء المعرفة الحقيقية للطلبة بحيث يمتلك الوعي بالقوانين والأنظمة المتعلقة بقواعد السلوك التقني، والأنظمة الدينية والقيم المجتمعية، بحيث يمارسها في حياته بما ينعكس على الشخصية الاعتبارية للإنسان الواعي والمدرك لواقع الحياة المعاش.
على المؤسسة الإعلامية اليوم أن تقوم بدروها الوطني في بناء الثقافة التقنية لدى المجتمع، فهي من أسرع الوسائل وصولاً إلى فكر المواطن، وأكثر مقدرة على تغيير وبناء القناعات لدى كافة فئات المجتمع، حتى نتمكّن من بناء حواجز أو حدود يضعها الفرد لنفسه بحيث تمنعه من اجتيازها، فكل فرد مسؤول عن تصرفاته وسلوكياته التي يقوم بها، ويتحمّل كافة الأعباء الناتجة عن سُوء الاستخدام.
فالمواطن الرقمي هو الذي يمتلك الثقافة الرقميّة التي تعينه على الاستخدام الفاعل للتقنية الحديثة، والاستفادة القصوى من الإمكانيات المتاحة في هذا الفضاء التقني الواسع، فلا يمكن أن نحرم أنفسنا أو أبناءنا من التفاعل الإلكتروني، والانفتاح على هذا العالم، والتعرّف على الثقافات المتعددة، واكتساب المعرفة من مصادرها المتنوعة، وبناء علاقات وحوار الحضارات بين الشعوب والأمم، في ضوء مجموعة من الأطر التي يجب أن يتحلّى بها المواطن الرقمي، ومنها ما يرتبط بقواعد السلوك الرقمي، واحترام ثقافات الشعوب والحضارات، والالتزام بالمبادئ الدينية والأعراف المجتمعيّة، والمحافظة على الهوية الوطنية، والتقيد بالأمانة الفكرية، والاحتفاظ بالحياة الخاصة كمفهوم يدفعه للانضباط، فلا تصبح صفحاته على الانترنت بوابة للدخول إلى حياته الخاصة والتعرّف عليها، وضرورة امتلاكه لمهارة الوقت بحيث يتحكم في الفترة الزمنية التي يقضيها في التفاعل الإلكتروني بما لا يضر بصحته أو بأدواره الوظيفية والمجتمعيّة، بحيث يشعر بالمسؤوليّة تجاه كل السلوكات التي تصدر منه أثناء استخدام هذه التقنية وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي، بحيث يعطي الصورة الحقيقية للتعامل الحضاري في عالم متغير، نحتاج إلى أن نكون قادرين على التفاعل والتعامل معه وفقا لمقتضياته المستحدثة.

[email protected]