في ضيافة معرض مسقط الدولي للكتاب

عبد الفتاح الزين**

الاستعداد للسفر
رن هاتفي الشخصي صباحا وأنا في طريقي إلى العمل، ظهر على شاشته رقم السفارة العمانية بالرباط، فضغطت على زر تشغيله عن بعد الموجود على مقود السيارة لأنه مرتبط بنظامها الإلكتروني. بعد تبادل التحية والتعرف على مخاطبي الذي يشغل مكلفا بالإعلام بالسفارة، أخبرني مشكورا أنه علي الاتصال لإتمام إجراءات السفر إلى السلطنة لأنني مدعو لحضور فعاليات معرض مسقط الدولي للكتاب كضيف شرف. أخبرته بأن جواز سفري قيد التحضير لدى الإدارة المختصة لأنه استوفى صلاحيته، وأن عليه أن يمهلني لبضعة أيام في انتظار الحصول عليه. فرد عليّ بطريقة ذكرتني بلكنات أصدقاء اكتسبتهم هناك "ما عليك ! لازال أمامنا متسع من الوقت، فالمعرض مبرمج لفترة 22 فبراير إلى غاية 4 مارس 2017".
مع انتهاء المكالمة بدأت أركز على تتبع سيرورة الحصول على الجواز ... وخلالها أرسل لي مخاطبي البريد الإلكتروني للسفارة قصد بعث نسخة من جواز سفري وصور شخصية لإجراءات التأشيرة. أقل من أسبوع على المكالمة، كان الجواز بين يدي ... تذكرت تلك السنوات الخوالي التي ما فرحت فيها بجواز سفري إلا بعد سنوات عديدة؛ حيث كان جواز السفر وسيلة عقابية في حق من طالبوا بالحقوق وأدوا الواجبات وأكثر تجاه الوطن دون مماحكة أو مماطلة ...
بعد أيام من إرسال المطلوب مني عبر البريد الإلكتروني، كان الاستقبال بسفارة سلطنة عمان بالغ الحفاوة حيث خلّصت الإجراءات وتوصّلت ببطاقة الحجز للسفر. ثم استأذنت بعد رشف كأس القهوة العمانية - متذكرا "الدَلّة" التي لم يكن يفارقها الأخ سعيد والتي كنّا "نعاقرها" بالمكتب أوقات الدوام خلال اجتماعات العمل أو فترات الاستراحة القانونية - وتبادل أطراف الحديث مع بعض موظفي السفارة حول أخبار من لم يكونوا موجودين بمقر السفارة ممن تربطني بهم صداقة وسابق معرفة. لقد كانت التأشيرة العمانية أول دمغة على الجواز الجديد!
السفر إلى حيث كنت أقطن
أخذت القطار من محطة الرباط أكَدال باكرا بعد تأخير ملحوظ جعلني أنظر إلى ساعتي كل حين بالرغم من أنني آخذ عادة كل الاحتياطات بأن أبدأ رحلتي من هذه المحطة نحو مطار محمد الخامس بالدار البيضاء بنحو خَمْس ساعات. لكن قطار السيد الخليع (= المدير العام للمكتب الوطني للسكك الحديدية) يأتي متأخرا في غالب الأحيان تحت ذرائع متنوعة ونادرا ما تكون معقولة. والأدهى من كل هذا، أنك قد تفاجأ بأن الجابي في المحطة لا يقبل أن يحجز لك تذكرتك إلى المطار بأمر شفهي في حين يمكنك الحجز على الآلة الأتوماتيكية على نفس الخط وفي نفس الوقت (؟؟) بل كذلك قد تسأل عن محطة الربط لتغيير القطار تحسبا لتغيير غير معلن، فتفاجأ بتضارب المعلومات بين موظف وآخر على اختلاف رتبهم، وحتى ما يتعلق برصيف الانتظار عند تغيير الخط في محطة الربط ... عموما، أجدني دائما موزعا بين الحمد على وجود خط سكة يوصل إلى المطار مُحرِّرا المسافر من ابتزاز أصحاب الطاكسيات والنقل السري بمختلف أنواعه المعلن وغير المعلن، المنظم وغير المنظم، وبين التأسف على وضعية النقل وجودة الخدمات وتوقيت حركة القطارات بالرغم من الإمكانيات المرصودة والخطابات الواعدة ... لكنني أخلص دائما إلى نفس الاستنتاج "البَلْسَم" : الأوضاع تتطور وإن بوتيرة متذبذبة غالبا ما نلحظ فيها جوانب التدهور بعد فرصة تحسن. وأتساءل عن السبب : أهو النظام العام، أم المكتب أم الموظف والعامل أم المُرْتُفِق؟ ويكون الجواب توزيع المسؤولية بنسب متفاوتة ... وأتنفس الصعداء، عندما أصل المطار، وتبدأ عملية العبور إلى منطقة الإركاب ...
بموازاة هذا كله، قفزت إلى السطح ذكريات استقراري بالسلطنة بين سنتي 2002 و 2006؛ حيث تمّ إلحاقي للعمل هناك. تذكرت أول لقاء لي مع ثلة من المفكرين والمثقفين والفنانين العمانيين الذين بدأوا يتسقطوا أخبار أستاذ باحث مغربي مقيم بعمان قام بنشر مقال حول معرض "الدائرة بين الحياة والموت" بقاعة الجمعية العمانية للفنون التشكيلية بمسقط، وكنت حينها قد قضيت فقط حوالي ثلاثة أسابيع هناك ... وأنا أتجاذب أطراف الحديث مع زميلي المغربي محمد جل مهندس معمار داخلي أقدم مغاربة عمان هناك، استأذن شاب عماني (ناصر المنجي) ليسألني بعد سماع اسمي إن كنت المغربي الذي نشر مؤخرا مقالا بجريدة الوطن؛ وما أن أجبته بنعم حتى اتصل بأصدقائه وأخبرهم بتعرّفه عليّ ثم دعانا لمرافقته حيث ينتظره الأخرون ببشاشة وحفاوة بالغة ... هناك بفندق حياة مسقط تعرّفت على الأخ سماء عيسى ومحمد الحارثي وزاهر الغافري ... والتحق بنا بعد فترة حسن مير ... وانساب بنا الحديث لأتذكر مع الحارثي تجربة مجلة نجمة بالمغرب ... وكانت بداية تجسير صداقة ستتقوى مع الزمن ... وتتسع لتنجب مجموعة الدائرة كتجربة فنية ثقافية قوامها الرغبة في الإبداع النبيل والطموح إلى نشر قيم العيش المشترك وجمالياته إلى جانب البحث في إنسانية الأجوبة عن أسئلة الواقع العربي والكوني عموما ... عدت إلى المغرب ولم تنقطع أواصر العلاقات الإنسانية والفكرية بيننا ... ذلك أن علاقات التبادل الفكرية والثقافية بيننا لم تندثر ولم تتوقف؛ حيث عدت لأول مرة ضيفا على مسقط بعد بضعة أشهر لأوقع كتابي "حصاد السنوات العمانية" الذي صدر عن الرؤيا للصحافة والنشر. كما زار المغرب أفراد من شلتنا استجابة لدعوات ... ولازالت ...
وكضيف على المعرض، تذكرت معارض الكتاب بمسقط التي شهدتها خلال إقامتى بمسقط ... لقد كانت بالنسبة لي أسواق كتاب لا أقل ولا أكثر. ولن أنسى أنه خلال معرض مسقط الدولي للكتاب التاسع لسنة 2004، حدثني المرحوم السيد محمد الدلائي سفير المغرب آنذاك عن انشغاله بفراغ فضاء المغرب بالمعرض إذ أن العارضين لم يأتوا. فاقترحت عليه أن نعرض مكتبتي لتأثيث الفضاء حتى لا يظل فارغا، وكنت حينها كلما سافرت إلى المغرب أقتني كتبا مغربية لطالبيها من أصدقائي العمانيين بالإضافة إلى تلبية حاجياتي، ولما تكاثرت الطلبات قررت أن أضعها رهن إشارتهم على سبيل الإعارة فقط. وقد بلغت الكتب حوالي 1000 وضعتها رهن إشارة السفارة ... وبعد انتهاء المعرض، أرسل لي سعادة السفير رسالة شكر مع كتبي لا زلت أحتفظ بها من بين الوثائق العمانية مع أعداد شرفات (الملحق الثقافي لجريدة عمان) الذي كنت أنشر به بانتظام. وقد وزعت مكتبتي على أصدقائي بعد أن اقترحت على السفارة المغربية هبتها على أساس أن تشكل نواة لمكتبة في خدمة الإشعاع الثقافي المغربي كما كان آنذاك حال السفارة الفرنسية التي كنت مسجلا بمكتبها التي لم تكن تفتح إلا مرة في الأسبوع ولساعات معدودة والتي كانت عبارة عن مكتب به رفوف عليها كتب مرتبة إلى حدّ ما ...
غير أنه مع إعلان مسقط عاصمة الثقافة العربية سنة 2006 لاحظت تحولا أخذ يتزايد مع مرور السنين سواء في إطلاق مشاريع ثقافية أو غيرها لعل أهمها كان هو إصدار وزارة الثقافة لعدد من المؤلفات العمانية للمثقفين والشباب والتي غطت عددا من الحقول كان أبرزها الشعر والقصة بمختلف أصنافها ... كما شهدت هذه الفترة ولادة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء ...
إنها المرة الأولى التي سأحضر فيها فعاليات معرض الكتاب منذ انتهاء مهمتي ومغادرتي لمسقط وأنا الذي دأبت على حضورها خلال سنوات تواجدي بعمان. وقد كانت دعوة كريمة من وزارة الإعلام. وخلال الرحلة، بدأت أتصفح برنامج المعرض الذي تكرّمت الأخت بشرى خلفان بإرسال نسخته الرقمية. لاحظت كثافة البرنامج من خلال فعالياته وأنشطته الثقافية إلى جانب استحضاره للطفولة. كما لاحظت وجود فعاليات فنية متنوعة. على العموم بدأت بوضع برنامج انتقائي للفعاليات التي بدت لي مهمة فيما يتعلق بميولاتي واهتماماتي ولكن بما لا يؤثر على حضور ما هو رسمي أو احترام آداب وأخلاقيات الضيافة التي أحرص على برتوكولاتها دون سقوط في تملق أو مجاملة زائفة لمعرفتي بطينة ونوعية الجهة المضيفة.
في الطائرة، كانت مفاجأتي أن الخط مستثمر بشراكة بين الخطوط الملكية المغربية والشركة القطرية وأنا الذي لم أركب طائرة مغربية نحو الخليج أيام إقامتي. لقد كانت طائرة من نوع بوينغ 787-8 جيت Boeing 787-8 Jet، بدأت اشتغالها في الخط منذ شهور (أقل من سنة، كما أخبرني المضيف المغربي). إنها طائرة تظهر عليها علامات الجدّة (هي واحدة من مجموعة الطائرات التي اقتنتها الشركة المغربية وبدأت تسلمها مع حلول سنة 2015). لقد كان بين المضيفين (إناثا وذكورا) بالإضافة إلى المغاربة منحدرون من جنسيات إفريقية كما هو سياسة الشركة منذ أن أصبحت بوابة إفريقيا على العالم؛ حيث استمرت تشتغل حتى في الوقت الذي أوفقت شركات أخرى عملها مع انتشار وباء إيبولا. وكان ذلك تضامنا مع قارة نحن جزء منها ونقتسم معها تاريخا لا زال في حاجة إلى الدراسة لاستجلاء سوء الفهم وإبراز المشترك الثقافي والعقدي العربي-الإسلامي من غرب إفريقيا إلى شرقها. لقد كان حضورا لا يمكننا كأحفاد من ساهموا فيه إلا أن نفتخر به ونقرأه القراءة المنفتحة على روح العصر. وهو موضوع أول استجواب نشر لي على صفحات الخليج الثقافي خلال سنة الأولى من إقامتي بالسلطنة، وكانت قراءتي لكتاب "مذكرات أميرة عربية" والذي كنت قد اقتنيته من مكتبة العائلة بمدينة السلطان قابوس. وهو ما فتح أمامي قراءات أخرى للحضور العماني بسواحل إفريقيا الشرقية ... هو موضوع لا زلت أعمل على الاشتغال حوله بما يخدم التقارب العربي الإفريقي ... على العموم مرت رحلتي بشكل جيد ومريح خاصة وأن الانتظار بمطار حمد بالدوحة لم يكن طويلا ولا متعبا. تذكرت وقتها مروري بالدوحة خلال إقامتي بعمان، وقد كنت أفضله لسرعة المرور.
في مسقط ومعرضها الدولي :
ما أن تراءت لي أنوار مسقط وسط ليل سماء صافية، حتى تذكرت تفحصي لجغرافية المدينة باحثا عن منطقة الخوير حيت كنت أسكن. كنت دائما أحاول اكتشاف الحي وموقع سكناي ... وغالبا ما كنت أحدد المكان، خاصة لما كنت أصل في الصبيحة، لدرجة أنني حفظت خريطته من أعالي السماء عندما تكون الطائرة بصدد الهبوط. وكنت غالبا ما أطلب المقاعد الموجودة في الجهة اليسرى لطاقم القيادة. لكن هذه المرة، وصلت ليلا وكبرت مسقطي التي أحتفظ بها في ذاكرتي. وقد اكتشفت الأمر خلال المرات الأخرى التي زرت فيها مسقط ... حطت الطائرة، وما أن ولجت قاعة الاستقبال حتى وجدت في انتظاري عمانية بالغة الحفاوة واللطف، تعرفت عليها من خلال اللائحة التي كانت تحملها وعليها اسمي، قصدتها وقدمت لها نفسي. بعد التحية والسلام والترحاب، تسلمت جواز سفري وباشرت الإجراءات بسرعة؛ حيث انطلقت بنا سيارة مرافقي إلى الفندق.
استيقظت بعد نومة عميقة ولكن لساعات معدودة وكأنني حريص على أن لا يضيع زمن إقامتي عبثا ... بعد الإفطار، بدأت اتصالاتي بمعارفي من العمانيين والمغاربة والذين سبق وأن أخبرت غالبيتهم بقدومي. كانت سلسلة من اللقاءات طوال أيام إقامتي مع من اقتسمت معهم لحظات حميمية خلال إقامتي واستمرت دون انقطاع ... وقد التقيت بعضهم خارج المعرض أو بأروقة المعرض ... كما اكتسبت عبرهم صداقات جديدة قوامها المحبة الإنسانية والمشترك الفكري ...
وجدت المعرض عالما آخر ... لقد أقيم بمعلمة جديدة : إنها مركز عمان للمؤتمرات والمعارض. صحيح أن بعض أقسام المركز لم تفتح بعد لأنها كانت قيد البناء أو الإعداد إلا أن هيئتها وملامحها تسفر عن منشأة لها مقومات الفضاء العصري الذي يوفر لمستعمله كل المستلزمات الضرورية ولزائره كل أسباب الراحة. لاحظت بالمعرض حضورا عربيا بالأساس تحتل الدور المصرية والعراقية والسورية واللبنانية إلى جانب الفضاءات العمانية معظم أروقته. زرت الجناح المغربي المتمثل في المركز الثقافي العربي الذي تأسس سنة 1958 كمكتبة بالدار البيضاء بالمغرب وكدار للنشر ببيروت بلبنان سنة 1978 ليكون جسرا ثقافيا بين المشرق والمغرب غير أنه لم يكن العارض الوحيد إذ أن بيت الزبير كعارض وكفضاء لمؤسسة ثقافية خاصة تساهم في تنشيط فعاليات المعرض كانت قد حصلت على تمثيلية لدار توبقال المغربية. وكان د. محمد الشحّي (المدير العام لمؤسسة بيت الزبير) قد صرّح للإعلام بأن مؤسسة بيت الزبير عملت على "مشاركة أحد أبرز دور النشر العربية للمرة الأولى في معرض مسقط الدولي، ووجودها في جناح بيت الزبير وهي دار توبقال للنشر من المغرب الشقيق، يأتي في إطار توجّه المؤسسة لاستقطاب النماذج الريادية في مجال الطباعة والنشر وتقريبا للمسافات المعرفية بين المتلقّي العماني والأسماء البارزة في عالم التأليف والكتابة، خصوصا إذا ما علمنا أن دار توبقال للنشر يكتب لها مفكرون وأدباء كبار [مغاربة] ... وغيرهم من الأسماء التي تتمتع بحضور نوعي ثقافي وفكري في مجالات المعرفة المتعددة". وهو ما أكدّه لي الأخ الشحّي عندما التقيته بعد أن قدّمه لي معالي محمد الزبير صاحب مؤسسة بيت الزبير. وبصري يقفز من عنوان لآخر من منشورات درا توبقال، تذكرت طلبيات الإخوة والأصدقاء العمانيين لكتاب مغاربة بعينهم من الذين نشرت لهم دار توبقال، وكيف كانوا يتسقطّون أخبار كتاباتهم. كان العديد منهم إما يطلب كتابا لكاتب مغربي أو يقدم لي ورقة كتب عليها بعناية كل المعلومات البيبليوغرافية عن المؤلف المطلوب. لقد لاحظت لدى من تشرفت بمعرفتهم وجالستهم إقبال كبير على القراءة ومتابعة جديد الفكر عربيا أو عالميا ... وتذكرت أيام استضافة مهرجان مسقط لمحمد بنيس واتصالاتي به لحثه على القدوم إلى بلد غالبا ما كنا في المغرب لا نعرف طينته ضمن ضباب الصور النمطية الرائجة حول الخليج ومن بدأوا يصلون منه في سياحتهم بعد اندلاع الحروب اللبنانية. جاء محمد بنيس وكانت مشاركته الشعرية قد تركت صدى طيبا، كما أن أدباء وشعراء ومثقفي قد أقاموا له استقبالا حميميا بنادي الطيران العماني لمحمد بنيس تبارى فيه الإخوة العمانيون بحفاوتهم الحاتمية واستمرت النقاشات والجدال على شاطيء النادي وقتا طويلا متوزعة بين الذكريات المغربية العمانية وتحليل الأفكار والتجاريب الأدبية والمشاريع الفكرية. كان أحسن ختام لليلة شعرية صدح فيها شاعر مغربي بشعره المصوغ بهوس ومتعة وصرامة  كأنها رجع الصدى لشعر فشل أهله في ترجمة كتاب الشعر لأرسطو بالرغم من توفّقهم في محبة الحكمة (=الفلسفة) لأنهم كانوا يعتقدون أن لا شعر إلا شعرهم ودونه ليس كذلك (كما أوضح ذلك المفكر عبد الفتاح كليطو في مؤلفه "لن تتكلم لغتي"). هذا الصدى كان مضمخا بفائض قيمة من التربة المغربية وعبقها المتعدد الجذور والذي أبدع خطا مغربيا أنكره الشرق ليضعه محمد بنيس ومجموعة من التجاريب الشعرية المغربية مطية لشاعرية كاليغرافية همها المتعة السمعية البصرية (القراءة والكتابة). كما أن هذه الامتدادات أهْدَت العالم "اليوم العالمي للشعر" عند بداية ربيع كل سنة (ونحن اليوم نحتفي به)، والذي ما أن احتفينا بأحداث 23 مارس التي أزهرتها شجرة الحديد من خلال هيئة الإنصاف والمصالحة والتي أهملت سنوات الرصاص الفكرية والثقافية لأن الأمر لم يكن حول السلطة أو الحكم وإنما حول مشروع المجتمع؛ حتى بدأنا نحتفي مع العالم بضرورة الشعر وأهميته أمام عولة كاسحة لكل ما هو نبيل في وجودنا : العواطف، والأحاسيس، والشاعرية ... أي كل ما يجعلنا بشرا ... هو الربيع شعر الحياة وحياة الشعر بما يقدمه وبما يلهم.
على أن مثل هذه المبادرة التي أقبل عليها بيت الزبير ستساعد في تبديد قلة المعرفة وستساعد على انتشار الكتاب المغربي وتداوله. في هذا السياق، ما قامت به كذلك دار مجان (دار نشر عمانية حديثة) من إقدام على إصدار مؤلف للدكتور عبد الرحيم شكير (من المغرب) "حرب تموز/يوليو 2006 مغامرة أم مؤامرة ؟!". وهو في الأصل أطروحة حاول فيها تحليل الخطاب الإعلامي العربي السمعي-البصري من خلال القنوات الفضائية. وقد تناول هذا الخطاب حول الحرب والتي "قدمتها الفضائيات العربية باعتبارها حربان بمنطقين إعلاميين، أو على الأصح، [منطقين] سياسيين مختلفين : منطق "عرب الاعتدال"، ومنطق "عرب الممانعة"". هي حرب كما استنتج الباحث "جولة صغيرة من معركة كبيرة في الأذهان قبل الأوطان". وامتدادات الفكرة بادية للعيان في صراعاتنا العربية-العربية التي نخوضها ضد بعضنا بالوكالة غالبا. وهي في شقها الفكري والثقافي والمعرفي تتجسد في غياب سوق عربية ممأسة للكتاب ضامنة لسهولة رواج الكتاب بين المغرب والمشرق. هو غياب لازال يكرس ليس فقط هيمنة مشرقية بل وقلة معرفة بما يمور به المغرب وما هو واقعه. استفادت منه أنظمة عسكرية جعلت الثقافة والإبداع الفكري يحلق في فلك صاحب السلطة وضمن فضاء جاذبيته في وقت (ذات سبعينيات) انطلق نقاش حول علاقة الثقافة بالسياسة ومتطلبات استقلالية المثقف عن السياسي ... بالرغم مما يمور في الواقع العربي هنا والآن فدوائر الضوء على قلتها فإنها تبدد بضعا من الظلمات ... وهو ما لاحظته في الندوة التي انتظمت ضمن فعاليات المعرض برعاية معالي الدكتور عبدالمنعم الحسني وزير الاعلام حول القاص المصري الراحل يوسف الشارونى : احتفاءًا بذكرى وإنتاج مبدع اشتغل في ما بين عامي 1983والعام 1992، وشغله المجتمع العماني بتراثه وثرائه. وقد أدار الندوة الموسعة الكاتب سليمان المعمري، وشارك فيها كل من ابن الراحل مقدما شهادة في والده، أما شقيقه يعقوب المتخصص في أدب الأطفال إبداعا وفكرا فقد تناول سيرة الراحل كإنسان وأخ ومبدع بالإضافة إلى تأثيره في حياته الشخصية والأسرية، بينما تحدثت الكاتبة الدكتورة بدرية الشحي عن دور يوسف في تحولها إلى كاتبة هي الطفلة الصغيرة؛ في حين نتناول كل من  الدكتور هيثم الحاج علي رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب والناقد شعبان يوسف الإبداع القصصي للراحل ومكانته في بانوراما القصة القصيرة. ولئن كانت المداخلات الثلاث الأولى تقع في باب الاحتفاء والتذكر، فإن المداخلتين الأخيرتين بالرغم من أهمية ما أسفرتا عنه من تحليل لإسهامات يوسف الشاروني في القصة القصيرة وإبداعه الأدبي وسعة الخيال والحبكة والصنعة التي لا تسقط في واقعية فجّة، فإن ما كان مهما بالنسبة لما طرحته حول علاقة الثقافة والفكر بالسياسة في عالمنا العربي وإن بشكل غير مباشر ومحتشم. فقد خلص الناقد شعبان يوسف إلى أن السياسة هي التي جعلت يوسف إدريس "يسرق" من يوسف الشاروني مكانة الريادة وعمودية القصة القصيرة؛ حيث أدلى بمعلومات وقدم حججه حول دور السلطة "بسياستها الثقافية وثقافتها السياسية" في ترجيح كفة يوسف إدريس! في حين دافع هيثم الحاج بلباقة رئيس الهيئة عن يوسف إدريس (يستنتج منه أنها سلطة تتكأ على سلطة ضمن النسق السياسي للوضع القائم ... وإن لم يكن للأمر بدّ.)! تلا ذلك نقاش الجمهور الذي أغنى المداخلات. في مطعم الفندق، قلت لهما، يمكن اعتبار أن الشخصان هما أصابع يد واحدة بالرغم من اختلاف أشكالها ووظائفها، فإن اليد دون واحد منها قد تفقد الكثير من كفاءاتها ومهاراتها.
خلال أيام حضوري بالمعرض، تابعت كذلك حلقة من حلقات النقاش التي كان ينظمها سماء عيسى  حول الشاعر البهلاني بفضاء مؤسسة بيت الزبير. وكانت محاضرة للباحث محمود حمد (وهو بصدد تحضير دكتوراه بتونس في النقد الأدبي)، حول ظاهرة التكرار عند أبي ملسم ناصر البهلاني. ويبدو أن التكرار كأسلوب قد ينجم عنه فعل بياني وجمالي وإيقاعي خاصة وأن الاهتمام بهندسة التكرارات ومواقعها في معمار القصيدة في الشعر ذي النكهة التصوّفيّة والتي تأتي تشكّلاتها العديدة مصحوبة بفيض الشعرية وأدبية الصورة والخيال ذلك أن التكرار في الشعر  « يقوي الوحدة و التمركز  و يظهر في تناوب الحركة والسكون أو تكرُّر الشيء على أبعاد متساوية .  و في ترديد لفظ واحد أو معنى واحد وهو الترجيع، ترجيع البداية في النهاية، ترجيع القرار في الغناء، رد العجز على الصدر  في الشعر، ترجيع النوتة الواحدة في الموسيقى، والعود المتواتر إلى شيء بعينه. و التكرار كثير الشيوع في الفن، وقل ما نجد أثرا فنيا لا تتكرر فيه أجزاء متقاربة أو متباعدة. و منه الترجيع المتسق أو الإيقاع أو اللازمة كمرتكز ووقفة تعيد انطلاق دورة شاعرية حول مضمون . وقدم أمثلة شعرية لأبي مسلم ناصر البهلاني. فبالرغم من أن للتكرار جمالياته التي بسطها العديد من النقاد ودرجوا على الإسهاب في استكشاف ووضع أسباب دواعيها، غير أنني باعتبار اهتماماتي السوسيولوجية حول قوانين الصمت وتنشئة القول، فقد تساءلت حول مدى اعتبار التكرار علامة أزمة في التعبير بالنظر لطبيعة الموضوع الشعري أو لنفص في الرصيد اللغوي للحفاظ على الموسيقى أو لحشو في الصورة الشعرية بهدف حفظ المعنى ... أنها فرضيات أقدمها لمحاولة فهم أكثر لضرورات التكرار أو أسباب اللجوء إليه ... كما حضرت جزءا مهما من المحاضرة القيمة لمسعود الحمداني حول الشعر النبطي. وتساءلت معه حول حصر الاهتمام بدراسة الشعر الشعبي بمنطقة بعينها على عكس شعراء الفصحى مع العلم أن الزجل المغربي مثلا أصبح قائم الذات كنوع شعري له مقوماته الخاصة، وذلك من أجل الانفتاح العربي-العربي بشكل يجعل هذا الشعر عربيا وخاصة مع ما توفره وسائط الاتصال والتواصل الاجتماعي ناهيك عن القنوات الفضائية والإذاعية ... كما أثرت مسألة اللغة (أو ما عبر عنه باللهجات) للبحث عن لغة جديدة مشتركة تجعلنا نخرج إلى فضاءات رحبة بدل هيمنة المصرية واللبنانية ... فالتحجج بصعوبة التفاهم باللغات الجهوية لا يستقيم خاصة مع الانتشار الجديد مثلا للأغنية المغربية وإقبال مغنين مشارقة عليها ... فهناك تجارب مغربية (أحمد لمسيح، مراد القادرين وآخرون) قابلة للاستكناه والاستلهام والعكس نجده في المشرق عموما والخليج على الخصوص ...
عموما، كان المعرض فرصة للاطلاع على جديد الإبداع العماني من قبيل رواية الباغ لبشرى خلفان التي توصلت بها في المعرض الدولي للكتاب والنشر بالدار البيضاء والذي وقعت بالمعرض طبعته الثانية، وكذا مؤلف سماء عيسى الذي جمع فيه شهاداته ومقالات حول الأدب والثقافة والتاريخ ... ناهيك عن مؤلفات أخرى وقعها لي أصحابها كعربون مودة وحبل صداقة سري رحمه الثقافة ومحبة المعرفة من قبيل الأخ عبد يغوث (ديوانه الشعري "لا تشربي من دمي أيتها الفراشة") والصديق الحميم عبد الرزاق الربيعي (ديوانه "قليلا ... من كثير عزّة") ... بالإضافة إلى مجموعة مؤلفات ومقالات للزميل يعقوب الشاروني الذي كسبت فيه صديقا نشيطا في تواصله معي منذ عودتي ... وكذلك اكتشافي لمبدعة رهيفة من الإمارات (الأخت ريم الكمالي) في اشتغالها ومن خلال حديثها عن روايتها "سلطنة هرمز" التي أسعى للحصول عليها قصد قراءتها ... فعلا كما أكد الوزير عبد المنعم الحسني وبطموحه في الفعل الفني والثقافي، إن معرض مسقط  للكتاب انتقل من سوق للكتاب إلى حالة ثقافية وفكرية تؤشر إلى المخاض الفكري والإبداعي الذي تحبل به عمان والتي أعتقد أنها تشكل نقطة ضوء مشعة بعيدا عن أي تصنع وضوضاء عسى أن تصمد ويزداد وهجها في منطقة تتجاذبها أبواق فضائيات تحاول تسويق شيئا يشبه "الثقافة" أو يتشبه بها ...

** أستاذ باحث بالمعهد الجامعي للبحث العلمي في جامعة محمد الخامس

تعليق عبر الفيس بوك