المواطن التاسع والعشرون!

سلطان الخروصي

يبدوا أنّ الجرح العربي لا يقوى على الاندمال؛ بل هو شغوف بأن يغرز خنجره في خاصرته ليزداد شقاقا ونفاقا، فحال هذا القطر (النائم) في خارطة العالم تشي بواقع مخزٍ ومؤلم على حد سواء، فبعد أيام ستُسدل البشوت وترتّب (الكرفتّات)، وسيحدّث تاريخ البيان الختامي الذي ما فتئ يطرح كل عام على منصّات القمم العربية العظمى! سيجتمع القوم على ضفاف البحر الميت ولربما يعيدون له بريق الحياة فقد لا يعرفون لماذا سميّ بهذا الاسم! فما أجملها من لحظات توزّع فيها الابتسامات الصفراء والحمراء، وفي بعض الزوايا تسمع رواح وإياب الملاعق والكؤوس، إذا سوف يجتمع الشمل العربي تحت قبة من انطلقت منها ذات يوم الثورة العربية الكبرى في 1916م والتي انفجرت في وجه الظلم والطغيان والجبروت العثماني – على حد قول البعض - نعم سيجتمع علية العرب وكبرائهم دون أن يخبرهم المزعجون عن اضمحلال أهم أقطاب التوازن العربي (العراق، ومصر، وسوريا)!

سيشجبون ويدينون ويثنون ويقترحون ويتمنّون فتلك أمانيّهم، بالمقابل سيشنّف كثيرا من أبناء الوطن العربي آذانهم ليجعلوها أوعية مفرغة؛ ويبقي المتأمّلون (الغلابة) أمثالي يسترقون ما يمكن أن تلفظه أمواج البحر الميت من مفاجآت والتي اعتدنا عليها ردحا من الزّمن من قبل الرئيس الليبي الراحل العقيد معمر القذافي، أو من الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.

كنّا بين الفينة والأخرى (ننشح) ابتسامات ملوّنة حينما نجد ضيفا ثقيلا على بعضنا وخفيفا على البعض المتبقي فيتوسّد صدر المجلس ليلقي على الحضور كلمات ظاهرها حسن وباطنها العذاب والنكال – من وجهة نظر البعض طبعا- فالاختلاف في الرأي و"الأمر" لا يفسد للودّ قضية، فلا ضير أن يبيع بعض قادتنا آذانهم دون قلوبهم لكلمات الضيف "الجوكر"، وأحيانا أخرى لبعض حمام وصقور الكونجرس، فتتلوّن القلوب والضمائر لكنها تتفق على سيمفونية التصفيق الذي يكاد يدمي نعومة أيادي البعض ويفسد عتق عودها الذي أزكم الأنوف! وفي معادن الناس تباين.

سيتقدم أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية ليتلو إعلان الأردن (2017) وقد يتوشّح بلباس بائس فيما أوكل إليه، لكنّها بروتوكولات لابد منها، وأجمل ما سنجده ربما في ذلك البيان هي طلاقة اللسان وسلامة اللغة التي يتمتع بها معالي الأمين المبجّل، فسوف يستلّ الكلمة وكأنّها جيتار يطرب القلب ويبهج النفس، فما أجمل اللغة العربية، وكأنّها أطايب القول كما ينتقى أطيب التمر – كما يقول عمر بن الخطاب – فلربما ستكون لحظة شرود في ضوء الخطبة العصماء التي سيجهر بها أبو الغيط.

سيبدأ البيان وكأنّه يتبرّأ من صنع القرارات العربية في جداول القضايا الجوهرية التي تنهش الجسد العربي، وسيكون هنالك استعراض سريع على مفاتيح البيانو التي تتغنّى بويلات العراق، وكذلك القضية السورية، وأزمات لبنان المتواترة، والملف السوداني المتعثّر، وشقاقات الصومال، والفوضى السياسية في ليبيا، وتقلبات الأوضاع في أم الدنيا، ناهيك عن القضية الجوهرية الفلسطينية، وشذر من الحديث يذرّ في عيون المواطن الجيبوتي واليمني.

والمتتبّع لمؤشرات القمم السابقة وعلى الرغم من التغيّرات الجذرية في المحيط يمكننا أن نلخّص فحوى العقول والبطون أن العرب لا زالوا يؤمنون بأن المرحلة ليست مرحلة اتخاذ القرارات كما كان في إعلان (1973) حينما (قرّر) العرب قطع امدادات النفط عن الدول الأوروبية المؤيدة للكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية؛ لإرغام إسرائيل على التراجع عن احتلال الأراضي العربية إبّان نكسة (1967)، بل لا زالوا يؤمنون بأنّها مرحلة التنديد والنصح والتوجيه والمداهنة و"مشّي حالك"، متجاهلين القضية الفلسطينية والتطورات التي تشهدها، واعتبارها قضية مصيرية لنضال أمّة لا زال قائما منذ ستة عقود ونيف، متناسين الجراح التي تفتح كل يوم من أفواه تجّار الدين والفتوى الفاسدة والذين يذكون التناحر والاقتتال، متجاهلين الإرهاب المذهبي والطائفي والسياسي والتربوي الذي تمارسه بعض الدول الأعضاء لتحقيق مصالح خبيثة على حساب أرواح شعوبها وأوطانها، جعلوا على الأذن اليمنى طينا واليسرى كوما من عجين دون الاعتبار من تساقط بعض شركائهم في القيادات العربية والتي كانت محل تصفيق حميم من قبل العدو والصديق، فانهارت اقتصاديات البعض منهم ولم نشهد حراكا عربيا مشهودا للدفاع عن مصالح الأمة، بل اغتيلت العدالة الاجتماعية لدى البعض دون أن نتلمّس شفاعة الجامعة العربية لنصرة المظلومين والمعدمين و(الدراويش) من أبناء جلدتها.

ما يشهده العالم العربي من انتكاسات وأمراض سرطانية مزمنة في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية هي بسبب تدخلات بعض دول الأعضاء المدرجين ضمن قائمة جامعة الدول العربية "الشقيقة"، دون الاكتراث بميثاق الجامعة العربية والانصياع لقدسية الشراكة بينها وبين الدول الأعضاء.

إعلان الأردن لربما هو آخر مسمار يدقّ في نعش هذه الجامعة؛ والتي كشفت للمواطن العربي أنّها تسمع (طراطيش) الأحداث من بعض (الخواجات) بأن هناك جراحات عربية عتيقة وأخرى لا تزال طريّة لكنها في الحقيقة لم تشهدها ولم ترها وكما يقال: "من سمع ليس كمن رأى"، فساستها منشغلون بما ينفعهم ويحقق لهم عيشا هانئا، وشعوبها منهمكون بقتل بعضهم البعض باسم الدين أو العرق أو المذهب أو الفكر السياسي السقيم وكل منهم يرفع صكّ غفرانه ليستحلّ جنات عدن وكأنها ملك أبيه!! لتظل بيانات القمة منذ قمة (1960) - لو استثنينا قمة (1973م) - وحتى اللحظة هي نفسها، والجديد فيها زركشة بعض الكلمات لتواكب تجديد الجراح، والمواطن العربي يغرّد بعض حكوات "أنا عربيّ" لمحمود درويش:

أجّل أنا عربيّ// ورقم بطاقتي خمسون ألفْ// وأطفالي ثمانية// وتاسعهم.. سيأتي بعد صيفْ! // وعنواني: أنا من قرية عزلاء منسيّهْ// شوارعها بلا أسماء// وكلّ رجالها في الحقل والمحجرْ// تحياتي المواطن التاسع والعشرون في القمة الثامنة والعشرين بالأردن!// رفعت الجلسة.

sultankamis@gmail.com