آفاق فكرية (5)

الحداثة والآيديولوجية

د. يحيى الريامي

الحداثة ليست عقيدة ولا آيديولوجية والبحث فيها لا يتعدى مستوى الأسئلة والقضايا ومحاولة استجلائها من خلال رفع النقاب عن كل أشكال الثوابت والمنطلقات بنظرة عقلية ومعرفية، لأن موضوعها ليس بظاهرة موحدة المنطلقات بسبب افتقاره للمذهبية المحكمة البنيان، وهناك أبعاد عديدة للحداثة تأخذ عدة تمظهرات مختلفة، منها الاتصال ثم الانفصال والتواصل إلا أنها في حركية تجديدية دائمة، وبالتالي فالحداثة عبارة عن اصطدام وهيجان وتقاطع وصراع بين الأصالة والتجديد والتقليد، وفي الوطن العربي علينا فهم طبيعة ذلك الصراع مع ذاتنا بأنه صراع بين ثلاثية التجديد بمعنى الحداثة والأصالة والتقليد وهو ليس صراعاً اختياريا، بقدر ما هو صراع يُجسّد لنا كيفية جوهر الحياة، بمعنى كيف تكون حياتنا مادية أو روحية، أو امتزاج الاثنين معاً، كيف يتمظهر لنا كل ذلك؟
الحداثة لها بُعد لا نستطيع ملامسته، فهي تبرهن من جانب على عبقرية الإنسان المعاصر ومنجزاته وتوظيفها بما يحقق نموه وتطوره إلا أنها في نفس الوقت تعمل على سلب حقوقنا في التأمل والانتظار لمعرفة فوائد تلك الإنجازات، وتنقيح رغباتنا والتمسك بإيجابياتها ومدى ضررها على خصوصياتنا الثقافية، من جانب آخر فهي تطوع عقولنا لغزوها وترغمنا عن وعي أو تبعية لناموسها المتجه نحو التجديد الآتي من المُستقبل بحيث تصبح مزايا الحاضر جزءاً من الماضي، ومن هنا فإنَّ الحداثة عبارة عن حركه اتصالية وتواصلية وانفصالية في نفس الوقت، بحيث كل قادم جديد وحديث يُولد من رحم الماضي للأمة، فتسعى لتطويره وتحديثه ودمجه نسبياً أو كلياً في ظل إمكانية التَّخلي عنه، والحداثة أيضاً قطيعة واعية ومدركة بزمنها ومكانها وهدفيتها مع التقليدي والتراثي رغبة في إعادة البناء، إلا أن الحداثة تمارس نفس المنهاجية على ذاتها، ومن هنا فإنّ للحداثة مفهوم هلامي مركب، لكنه يلامسنا في كياننا من خلال الاتصال والتواصل وحيناً من خلال الانفصال، وهي ليست بآيديولوجية دوغماتية (الجمود الفكري أو المعتقد الأوحد) وبالعقل تكتشف.
الآيديولوجيا تشبه الدورات الكونية: (فكرة نهائية أخرى ما تفتأ تقرع آذاننا، وهي نهاية الآيديولوجيا، منذ الخمسينات إلى الآن، وبصور وأشكال متنوعة، وهي بالتأكيد فكرة ذات أبعادٍ متنوعة، فهي على المستوى المعرفي تشير إلى أنَّ العلم والمعرفة العلمية قد انتصرا على الآيديولوجيا والمعرفة الآيديولوجية أو القيمية، وأن شرط الموضوعية الذي تتطلبه كل معرفة علمية سيقود إلى إبعاد المعرفة الآيديولوجية باعتبارها معرفة متحيزة، وغير علمية، لكن لمصطلح "نهاية الآيديولوجيا" وجهاً آخر شبيهاً بفكرة "نهاية التاريخ" ذلك أنَّه مع ازدهار المجتمعات الاستهلاكية، ودخول الرأسمالية مرحلة الإنتاج العالمي الموسع، تولّد وهْمٌ يقول إنَّ الحاجات البشرية سيتم إشباعها كافة بفضل التَّقدم التقني، وبما أن الآيديولوجيا والآيديولوجيات الثورية على وجه الخصوص تضمّ بُعداً يوتوبياً (لا مكان للشر) واحتجاجياً على الواقع ومطلبياً، فإنها في الطريق إلى الانقراض، حيث لم تعُد هناك حاجة إليها مع توفر الإشباع والاكتفاء، والحال أنَّ العكس هو الذي حدث، فالآيديولوجيات تتوالد وتتكاثر، وتتناسخ وتتخذ مسوحاً مُتعددة ودورات أشبه ما تكون بالدورات الكونية، فهي تارة علمانية وأخرى دينية وهكذا، (فالفضاءات التي كانت تملؤها الآيديولوجيا الإشتراكية احتلتها الآيديولوجيا الليبرالية الظافرة. وكأن آيديولوجيا تطرد أخرى وتحل محلها، وكانت الإشتراكية منذ أواسط القرن العشرين إلى بدايات هذا القرن بمثابة يوتوبيا، وما أن نجحت في الاستيلاء على السلطة حتى تحولت إلى آيديولوجيا بالمعنى الذي يقترحه المفكر الألماني "مانهايم"، أي فكراً مبرراً للواقع، وها هي الليبرالية اليوم تجدد إهابها وتتحول إلى يوتوبياً في المناطق التي كانت تسودها الآيديولوجيا الاشتراكية، ففكرة نهاية الآيديولوجيات وفكرة نهاية الآيديولوجيا كلاهما غير صائبتين. فلا الآيديولوجيات انتهت، ولا الآيديولوجيا بعامة انتهت وقد سبق للمُفكر الفرنسي "التوسير" أن دافع بقوة عن فكرة بقاء الآيديولوجيا ورفض فكرة نهاية الآيديولوجيا سواء في صيغتها الاشتراكية القائلة بأنَّ المُجتمع الاشتراكي سيُحقق للأفراد كل حاجاتهم وبذلك ينتفي الصراع الاجتماعي والاستغلال وكذا الحاجة إلى التضليل والتمويه اللذين يشكلان جوهر اشتغال الآيديولوجيا سواء في صيغتها الاشتراكية، أو في صيغتها الرأسمالية القائلة بأن تحقق مجتمع الوفرة والاستهلاك سيقضي على التطورات الاجتماعية، وعلى ضغط الحاجات وبالتالي سيخلق مجتمعاً مسالماً لا حاجة فيه الأيديولوجيا.
 إن مفهوم الآيديولوجيا لدى ما بعد الحداثة لا يلزم فلسفياً: (تتسم فلسفة ما بعد الحداثة باستقلالية التمثيل فالسيموطيقا (علم العلامات أو الإشارات) والتفكيك يتحديان الاعتقاد الواقعي للقرن التاسع عشر الذي يذهب إلى أنَّ العلاقات اللغوية تشير ببساطة نحو أشياء واقعية على نحوٍ شفاف لا تعقيد فيه، وبدلاً منه يوحيان بأن ما ندركه بوصفه العالم "الواقعي" قد خلقته لنا أو شيدته لنا أنظمة الدلالة التي نستخدمها لتمثيله، وقد أدى ذلك بعدد من مفكري ما بعد الحداثة إلى أن يطرحوا التساؤل حول ما إن كان مفهوم الآيديولوجيا ما يزال لازماً، ذلك أن كلمة آيديولوجية تشير في المعتاد إلى طريقة في التفكير خاطئة على نحو نسقي، إلى وعيٍ زائف، فإذا آمنا بقوة التمثيل في تشييد الواقع أصبح من الصعب الاحتفاظ بالتمييز بين الحقيقة والزيف، وربما تكون هناك تأثيرات حقيقية تنتجها أنظمة الدلالة المتنوّعة أو الخطابات ولكن ليس من المُمكن وجود أي مقياس خارجي للحكم نستطيع وفقاً له تقييم المزاعم المختلفة، وانطلاقاً من النزعة النسبية التي توصف بها عادةً فلسفات ما بعد الحداثة، فإن أكبر ضربة توجه ضد المفهوم "الآيديولوجيا" أن الإقرار بوجود وعيٍ زائف يلزم عنه الزعم بأنَّ ثمة قاعدة صادقة أصليّة، وهذا يقود إلى نحت معايير محددة تقيّد مجالات التفلسف والتنظير).

[email protected]
خبير في شؤون الملكية الفكرية

المرجع أطروحة الدكتوراة (الملكية الفكرية والحماية القانونية للمعارف التقليدية الموروثة - التحديات والحلول )