تقدير القامات الوطنية

د. صالح الفهدي

كما لا ينهض بناء شامخ بدون أركان، فإنّ الأوطان لا تنهض دون قامات إنسانية؛ قامات ذات مكنة وقدرة، وهمة ومنعة قامت على سواعدها الدول، وتحققت بهممها الطموحات، وسمقت بإبداعاتها الإنجازات.
لقد كان للقامات أثر عظيم في صدر الإسلام، ونشأة الدولة الإسلامية الأصيلة، فمن يقرأ كتاب "رجال حول الرسول" لخالد محمد خالد يدرك كم لهذه القامات من أثر على الإسلام حتى اليوم. ولذلك كان التكريم الإلهي لهذه القامات العظيمة كبيرا، فمنهم من بشر بالجنة، ومنهم البدريون الذين غُفِر لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، ومنهم من وعد بالعطاء الرباني اللامحدود.
لقد رأت اليابان بعد أن نزلت عليها الكارثة المتمثلة في إلقاء القنابل النووية عليها في هيروشيما وناجازاكي عام 1945 رأت وضع قيم مكينة عليها تتمسك بها إن أرادت النهوض من نكبتها، والإفاقة من صدمتها، وكان من تلك القيم "دعم القيادات الصالحة" في المجتمع الياباني.
إنّ أحقية القامات العلمية والأدبية والدينية والفكرية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية وغيرها في التقدير لهو أمر لا يجادل عليه عاقل، ولا يماري فيه إلا جاهل، فهم مصابيح تقود الأمة في أحلك فتراتها التاريخية، وهم منابر توجه الشعوب إلى ما يصلح أحوالها، وهم منارات تهدي الأوطان إلى الطرق النيّرة التي تحقق لها رفعتها وازدهارها.
قامات لم تبخل على وطنها وأمتها بعلم ولا بفكر ولا بجهد، ولم يكن لها فيما فعلت من مصلحة تريدها سوى المصلحة العليا للوطن والأمة. لم ترتج شهرة ولم تنتظر إنعاما أو ثروة ولم تطالب بمناصب أو وجاهات ولا غير ذلك، فإخلاصها لرسالتها، وإيمانها بالأهداف الكبرى لأمتها هي الدوافع التي كانت وراء العطاء المستمر، والبذل اللامحدود، الذي يتداخل فيه الليل بالنهار...!
ومع ذلك فإن الدولة الحكيمة هي التي تقدر القامات الأصيلة، وترفعها المقام الذي تستحقه، وتنزلها المكانة التي تليق بها، وتمنحها الألقاب الشرفية التي تجدر بها. فضلا عن ذلك فإن الدولة الحصيفة هي التي تنظر إلى أحوال هذه القامات فتكرمها لقاء إكرامها لوطنها، وتعزها نظير جهودها المعطاءة، وفي هذا رسالة بينة إلى المجتمع بأن الدولة تكرم كل مخلص يبذل الجهد والعطاء والتضحية لوطنه ولأجل ذلك فليتنافس المتنافسون، وليتسابق الأوفياء المخلصون.
أما إن أقصت الدولة هذه القامات العظيمة، وقللت من قيمتهم المعنوية بعدم الالتفات لإكرامهم، وأعلت في المقابل من هم دونهم في العلم والفكر والأدب والخلق فإن ذلك يضعضع أركان الوطن، ويضعف لحمته، ويغير من توجهاته الأصيلة، ويدفعه إلى مسارات النفاق الاجتماعي، والتملق للحظوة بالمنصب والجاه والثروة والسلطة، والتقرب الزائف من صناع القرار بغية الحصول على مطامح زائفة دون وجه حق، وفي ذلك ضرر للوطن أيما ضرر...!!
إن الوجاهات التي تمنح لغير مستحقيها، والمناصب التي يحظى بها غير أهل الجدارة بها، والميزات التي توهب لغير أهل الفضل والاستحقاق، وكل إكرام أو عطاء يناله غير أهله لن يكون سديدا في ثوابه، وحكيما في مناله، وحصيفا في غاياته، بل إنّه ذو أثر سلبي على القامات المخلصة التي لا تصدر التضحيات العظيمة إلا منها، ولا ترتقي الإنجازات الوطنية إلا بها.
لقد أعجبت بقرار الملكة إليزابيث بعيد الهجوم الإرهابي الذي حدث أمام البرلمان البريطاني "إذ كرمت وزير الدولة للشؤون الخارجية توبياس إلوود والنائب في مجلس العموم بتعيينه عضوًا في مجلس الملكة الخاص، بعد محاولته الشجاعة لإنقاذ حياة ضابط شرطة تعرّض للطعن حتى الموت في الهجوم على البرلمان البريطاني"..
مثل هذه التكريمات والتقديرات لأصحاب الأعمال العظيمة لها أبلغ الأثر، وأعظم الفاعلية في نفوس البشر حيث أنها بمثابة رسالة عالية التقدير بأن كل تضحية، وكل إنجاز في سبيل الوطن وأبنائه لا بد وأن يكون لها مقابل من الإكرام والثناء وإن كانت أنفسهم أسمى من النظر في تلك التقديرات حينما تدفعهم إلى مواطن التضحية وميدان الفداء، ومضامير العمل.
إنّ الأمة تمر بفترات هناء وشقاء، ورغد وضنك وهي في كل هذه الفترات محتاجة أعظم الحاجة إلى القامات الجليلة للقيادة المخلصة الحكيمة التي ترتقي بالوطن عاليا فوق كل مصلحة، وهي في الوقت ذاته شخصيات تتمتع باحترام المجتمع لها وتقديره لعطاءاتها وإنجازاتها، فإن التفت إليهم أهل القرار وقربوهم وأكرموهم وجعلوا لهم مُكنة في الأمر، وفاعلية في القيادة فقد أنعموا بذلك الفعل السامي لأوطانهم، وإن أقصوا تلك القامات الرفيعة، وهمشوا فاعليتها في المجتمع، وأضعفوا من صوتها المتزن فإن لذلك أثرا غير حميد على المجتمع.
ما ازدهر الإبداع، ولا توقدت الهمم، ولا تواصلت العطاءات إلا بالاهتمام والرعاية والعناية والتكريم والتقدير الذي توليه أية دولة للنوابغ من قادة ومعلمين ومفكرين وشعراء وأدباء وفنانين وسياسيين واقتصاديين، ولا أضاع الإبداع، وخبت العزائم، وتوقفت الإنجازات إلا بسبب الاقصاء والتهميش وإكساب غير ذوي الجدارة الحظوة على اختلاف مراتبها ومميزاتها...!
كم من عالم جليل لم ينل التكريم إلا بعد موته..! وكم من قائد محنك مر عليه العمر دون أن ينتفع من قدراته الوطن..! وكم من مفكر لم يلتفت إلى أفكاره التي تصب في صالح نماء الوطن..! وكم من مبدع لاقى الإهمال والتهميش. وفي المقابل كم من جاهل نال الحظوة، وكم من متحذلق حصل على ما لم يكن يوما يحلم به..! في الوقت الذي كرمت فيه بعض القامات خارج أوطانها في محافل شتى ومع ذلك فهي تشعر - إزاء عدم التفات وطنها لها- بشعور العتب والألم...!
انتكست المفاهيم، وعكست المبادئ فشجع ذلك على انتشار ظهور أصحاب الخواء والفراغ والاتجاهات غير السوية لأنّ الساحة قد هيأت لظهورهم، ومهدت لهم عوامل الشهرة والتميز على ذوي الفضل والعقل والأدب...!
إنّ قوام أي وطن يكمن في تقدير القامات التي تعطي دون كلل أو ملل، ودون مِنّة أو تشدّق، تقدير يدفعها - وغيرها- للإنجاز والعطاء.. فهذا معلم يقدر لعطائه، وهذا رجل أعمال يكرم بوسام لأنّه بنى مشروعا وطنيا، وذلك ناشط في مجال العمل الاجتماعي يثنى على مجهوده في مناسبة معينة، وذلك مفكر يقدر برئاسته لمركز للدراسات الاستراتيجية، وتلك أديبة تكرم بدعم نشاطها الأدبي، وذلك مصلح ينال الدعم المادي لينشر رسالته الإصلاحية في المجتمع، وذلك متعلم مستنير يتمتع بمميزات القيادة يرفع إلى مرتبة الوزارة ليستفيد الوطن من فكره وعطائه، وذلك شاب مبدع يدفع به إلى ما يُنمي ميوله، ويصقل إبداعاته، وتلك باحثة تحظى بالاهتمام لتفيد بحوثها تطوير المجتمع، وذلك طبيب ماهر ينعم عليه بالاهتمام والتقدير، وذلك إعلامي بارز يمكن من تطوير الرسالة الإعلامية في وطنه.. هؤلاء وغيرهم من القامات التي تزخر بها الأوطان هم الثروات الحقيقية التي يفترض أن تنال تقدير الوطن واهتمامه إن أراد تقدما ورفعة ونماء حقيقيا.
أما إن ذهب التقدير لغير مستحقيه فإنّ المجتمع سيفقد أصالته التي ينشدها، ويضيع مكتسباته التي عاش حريصا على صيانتها، ويخسر منجزاته التي بذل التضحيات من أجلها.. إنّها معادلة النماء التي قامت بها سنغافورة يوجزها مؤسسها لي كوان يو بقوله:" "كلما زادت المواهب التي أستخدم أصحابها كوزراء ومديرين وحرفيين متخصصين كلما تنامت فاعلية وكفاءة السياسات التي اتبعها وتحسنت النتائج".