السياسات الاقتصاديةً الشعبوية

علي بن حمدان الرئيسي

لابد في البدء من توضيح حول تفسير مفهوم الشعبويةً، وهي على كل تختلف من مفهوم الشعبية. السياسات الشعبوية هي في الحقيقة ديماغوجية سياسية، بمعنى أن هذه السياسات في ظاهرها تبدو أنّها تخدم القطاعات الأوسع في المجتمع وخاصة تلك الفئات التي تحس أنّها مهمشة من قبل النخبة، ولكن في حقيقة الأمر إنّما تغذي مشاعر البسطاء بعدم الرضا والسخط، بينما السياسات الشعبية تلك التي في محصلتها النهائية تخدم مصالح القطاع الأوسع من المجتمع على المدى المتوسط وطويل الأجل.
وخير مثال على ذلك في الوقت الحاضر برنامج الرئيس دونالد ترامب في الولايات المتحدة، وبريكست في الملكة المتحدة. حيث أوصلت الدعايات المختلفة والحجج التي ساقاها مع حالات التذمر والاستياء في كلا البلدين إلى النتائج الحالية. كما يمارس اليمين المتطرف هذه الديماغوجية في أوروبا للاستفادة من حالة الاستياء المنتشرة ضد النخب السياسية الحاكمة. وبالطبع هذه الحالة ليست خاصة باليمين فقط فقد مارسها اليسار أيضا وخاصة في الستينات والسبعينيات سواء في أمريكا اللاتينية أو في منطقة الشرق الأوسط.
ويعرف الاقتصاديون السياسات الاقتصادية الشعبوية بأنّها حزمة من السياسات التي لا تأخذ في الاعتبار قيود الموازنة العامة (budget constraint) ومحددات إدارة السياسة الاقتصادية الكلية وكذلك الاعتبارات الخاصة والمحددة للإنتاجية، وهي في المدى القصير تفرز نموا غير متوقع ولكن على المدى الأبعد تؤدي إلى أزمة اقتصادية. وهذا السياسات ليس فقط لا تعنيها السياسات الاقتصادية الحصيفة فحسب، بل لا تهتم حتى بالمؤسسات التي من المفترض أن تنفذ هذه السياسات. وعليه تعتمد هذه الإدارات أو الأحزاب على العمل على تقسيم المجتمع أفقيا هم ونحن، وهي تعتمد في ذلك على تحشيد وكسب الجمهور عن طريق الاستفتاء أو غيره من الأساليب، وعادة يبدأ عملهم حينما يكون الناس في حالة من الغضب واليأس من الأوضاع الاقتصادية ففي الولايات المتحدة وبالذات في المناطق في الغرب المتوسط (Mid-west) والجنوب حيث يعاني السكان البيض ذوي الدخول المتوسطة والمنخفضة منذ عقود من ثبات أو انخفاض في مستوى المعيشة، وهناك تدنٍ وانخفاض في الأجور للعمال الصناعيين وتدنٍ في الخدمات سواء من تعليم وخدمات صحيّة، بينما هناك ارتفاع غير مسبوق في دخل الفئات  الأكثر غنى. وفي حالات كهذه يكون من السهل إيجاد أعداء خارجيين وهميين كالصين مثلا أو المسلمين في الولايات المتحدة، أو المهاجرين والنازحين في أوروبا وذلك لتسليط الغضب على عدو خارجي مفترض بدلا من مواجهة القضايا الداخلية. وأول الضحايا هي المؤسسات المستقلة كالبنك المركزي مثلا والمعني بصورة أساسية بالاستقرار المالي والاقتصادي، ومن هنا يأتي تفسيرنا للخلاف الحالي بين الرئيس دونالد ترامب والاحتياطي الفيدرالي وكذلك الحملة ضد محافظ بنك إنكلترا ومن هذه الضحايا القضاء المستقل أيضا.
وقد اشتهرت بلدان أمريكا الجنوبية أكثر من غيرها من تطبيق هكذا سياسات، بيرون و وفارجاس ومن ثمّ آلان جارسيا في بيرو دانييل أورتيجا في نيكاراجوا، شافيز في فنزويلا. فمارسوا سياسات الحماية التجارية، عجوزات كبيرة في المالية العامة، تزايد كبير في الدين العام، وانفلات للتضخم نتيجة لتسارع النمو وانخفاض كبير في سعر الصرف وأزمة نقدية، ومن ثم تتبعها أزمة اقتصادية.
في الشرق الأوسط وفي الدول المصدرة للنفط ورغم وجود احتياطيّات متراكمة من سنوات الطفرة النفطية فقد أتبعت هذا الدول على الأقل بالنسبة للسياسات الاقتصادية الكلية سياسات متزنة رغم أنّ هذه الدول كانت تتبع في نهجها العام نموذج الدولة الريعية. غير أنّها حافظت على مستوى منخفض للتضخم، وسجلت فوائض في الموازنات العامة مما ساعد على فائض في الميزان الجاري. غير أنّ منذ العام 2011 مع بداية ما يُسمى بالربيع العربي تزايد الإنفاق العام بمستويات مرتفعة وتمّ التوظيف في الجهاز الحكومي بمستويات غير حصيفة، ومع انهيار أسعار النفط في العام 2015، سجلت معظم الدول المصدرة للنفط مستويات مرتفعة من العجوزات في المالية ومن ثمّ في الميزان الجاري لميزان المدفوعات. وبدا جليا أنّ السياسات الشعبوية التي تم اتخاذها منذ بداية الربيع العربي بدأت تلقي بظلالها على مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، فلجأت هذا الدول إلى الاقتراض الداخلي والخارجي بشكل مضطرد كما قامت بالسحب من احتياطاتها في الصناديق السيادية وبدأت في فرض ضرائب ورسوم غير مسبوقة. كما أنّ تباطؤ النمو الاقتصادي نتيجة لتباطؤ الإنفاق الحكومي قد ضاعف من أعداد الباحثين عن عمل؛ ولا سيما أنّ القطاع الخاص هو الآخر أصبح أحد ضحايا تزايد الضرائب الحكومية وانخفاض الإنفاق العام.

خبير اقتصادي