د. سيف بن ناصر المعمري
يُشعرني الالتفات إلى المُعلمين بالتَّقدير والاعتراف بالأمل رغم كل ما يجري في العالم من انتكاسات اجتماعية واقتصادية وسياسية، هؤلاء المُعلمين يقومون بمُهمة أبعد من تعليم القراءة والكتابة فهم يزرعون الإرادة والأمل في نفوس هؤلاء الصغار الذين يولدون في عالم يتزايد فيه الاستغلال وانتهاك حُقوق الإنسان وقهره في كثيرٍ من مناطق العالم، ورغم المُهمة الكبيرة والسامية التي يهبون حياتهم لها إلا أنَّهم قليل ما يُعترف لهم بالفضل والتقدير من الحكومات والمُجتمعات التي لا تعي الجَّهد الذين يقومون به كخط دفاع أول ضد جيوش الاستغلال والهمجية التي تعمل على انتزاع إنسانية الإنسان وتجنيده من أجل القيام بمهام شريرة للجريمة والترويج للمُخدرات والإرهاب ونشر الكراهية وغيرها من المهام التي تُهدد تماسك المُجتمعات الإنسانية، وحده المُعلم يقف في الساحة للحد من نزعات العُنف والكراهية التي يبثها بعض رجال الدين والسياسيين والإعلاميين فهل تُدرك المُجتمعات الإنسانية هذه المُهمة المُستحيلة التي يقوم بها المعلم؟.
لقد كُنت أرقبُ مع كثيرين عبر العالم من سيكون أفضل مُعلم في العالم هذا العام؟ ومن سيحظى بجائزة نوبل للمُعلمين التي تُقدِّمها مؤسسة فاركي جيمس ومقرها في دبي لأفضل المُعلمين في العالم والذين يكون لديهم دور بارز في إحداث التغيير في طلبتهم ومجتمعاتهم لأنّ المُعلم هو رمز للتغيير والبناء وبث الأمل في الحياة، هذه هي السنة الثالثة منذ إطلاق هذه الجائزة حيث فازت بها في الدورة الأولى مُعلمة اللغة الإنجليزية الأمريكية نانسي التي قدمت للولايات المتحدة ليس فقط عمرها بأكمله في سبيل الارتقاء بمهنة التعليم وإنما قدمت لها عشرات الشعراء والكتاب الذين أصبح لهم مكانة بارزة في الحياة الأدبية وقدَّمت مدرسة نموذجية يتم فيها تعلم أفضل الممارسات التدريسية، أما في الدورة الثانية ففازت بها المُعلمة الفلسطينية حنان الحروب التي جعلت من التعليم سلاحاً للمقاومة في أرض مُحتلة لا يرى الإنسان فيها إلا السدود والقيود ولكنها ناضلت لكي تجعل الأمل في الغد، وكان التساؤل هذا العام كبيرًا جدًا هل ستفوز بها أيضاً معلمة لتُثبت أنَّ المرأة هي مُعلمة الإنسانية الأولى وأن التعليم يتطلب شعورًا بالأمومة لا تمتلكه إلا النساء، اللاتي لا يُغادرن البيت ليذهبن إلى المدرسة.. ولا يتركن المدرسة ليعدن إلى البيت. فكلا المكانين هما الفضاء الذي تجد فيه المرأة نفسها لتُعطي من أجل أن يكون هذا العالم أفضل بدون حروب أو كراهية أو حرمان، لقد تقدم للجائزة هذا العام عشرون ألف مُعلم من ١٧٩ دولة في العالم، وذهبت الجائزة إلى مُعلمة كندية حصلت عليها بدون واسطة أو محسوبية، كما يحدث في بعض الجوائز إنما ناجية عمل مؤثر قامت به وتستحق تصفيق العالم لها لأنَّها قدَّمت مثالاً لهذه المهنة العظيمة التي تتعرض في مناطق كثيرة في العالم لامتهان وازدراء وانتقاص لا أحد يدركه وتبعاته على المدى الطويل.
المُعلمة ماغي ماكدونيل التي فازت بالجائزة هذا العام قامت خلال حياتها المهنية بمهمة إنسانية أنقذت فيها أطفالاً ليس من خطر الأمية ولكن من خطر الانتحار نتيجة الحرمان والبؤس، قامت بما لم تقم به حكومة بأكملها أطلقت العنان لشعورها الإنساني، جعلت من التعليم حياة حيث كانت تدرس في مقاطعة كويبك منطقة السكان الأصليين وبالتحديد في مدرسة إيكوسيك في منطقة سالويت وهي قرية نائية في القطب الشمالي الكندي وهي قرية شديدة البرودة تصل درجة برودتها 20 درجة تحت الصفر ولا يُمكن الوصول إليها إلا جواً فقط، وبالتالي عملت هذه المُعلمة على تحدي هذه الظروف الصعبة وحولت مهنتها إلى إيمان دفعها إلى الإخلاص للقيام برسالتها النبيلة، وغيرت المعنى السائد عن التَّعليم بأنَّه مُجرد درس إلى صناعة القابلية للحياة ومواجهة مخاطرها، وهو المعنى الذي نحتاج اليوم أكثر من أيّ وقت إلى اختبار وجوده في مؤسساتنا التعليمية.
ومما يزيد من تأثير مثل هذا الحدث هو خروج رئيس وزراء كندا لتهنئة هذه المُعلمة وشكرها على الدور الذي قامت به حيث وصفها بتعبير دقيق جدًا وهو "أنَّها ترسم ملامح المستقبل"، وهو تعليق يُعبر عن المكانة التي يحظى بها المعلم في هذه المجتمعات، ويعكس أيضًا الثقة التي تشعر بها قيادات هذه الدول بالمُعلم الذي يُعد الأمين على الحاضر والمستقبل وصانع الأمل، والمتصدي لإشكاليات الواقع الذي يكون الطلبة هم أول ضحاياه، لقد قامت هذه المُعلمة بتحسين الصحة وفرص الحياة وفرصها بين الصغار، كانت تواجه مشكلة الانتحار في هذه المنطقة المنعزلة، تحدثت بتأثر عن شعور المعلم الذي يأتي في اليوم التالي ويجد أحد طلبته وقد غادر الحياة انتحارا، قالت "عندما كنت أحضر إلى المدرسة صباحاً بعد الحادث وأجد مقعد الطالب خالياً في الفصل كانت تنتابني حالة من الصمت والجمود"
علينا أن نُؤمن رغم كل شيء بأنّ المعلمين هم الفئة التي ستصنع الجيل الذي يعمل على تطوير هذا البلد وصناعة المُستقبل الباهر رغم قلة الموارد .. المعلمون الذين يتحملون كل صباح مُهمة رعاية نصف عدد السكان في وقت لا يتحمل فيه موظفو بعض المؤسسات عددا محدودا من المُراجعين، لابد أن نبرز النماذج الناجحة منهم في مُختلف الوسائل حتى تتغير نظرة كثير من المسؤولين وأفراد المُجتمع لهذه المهنة، فلا يُمكن في مجتمعات تنشد التقدم وتبحث عن وسائل مواجهة التحديات أن تكون مكانة المُعلمين وحوافزهم بين أخذ ورد وكأنَّهم موظفون كبقية الموظفين الذين لا يعايشون كل هذا القلق اليومي مع طلبتهم بُغية تحسين أوضاعهم التعليمية والحياتية.