خازن أسرار التاريخ العُماني

حاتم الطائي

ترجَّل، قبل أسابيع، عالمُ الآثار الإيطالي مويسيو توزي، ببلدته رافينا بإيطاليا؛ ليتوارى "خازن أسرار التاريخ العُماني"، بعد مَسِيْرة علميَّة امتدَّت لأكثر من أربعة عقود، قَضَاها في مَجَال المسح والتنقيب الأثري بالسلطنة؛ منذ أنْ قَدِم إليها على رأس بعثة إيطالية-فرنسية مُشتركة، عزَّزت استنتاجات العلماء الألمان في سبعينيات القرن الماضي حول حضارة مَجَان، وأثبتتْ أدلة وبراهين المكتشفات الأثرية القديمة، وعلاقة عُمان الماضي بحضارات العالم، فاكتشفَ وتعرَّف على عشرات المواقع؛ ليسجِّل اسمَه كمرجع علمي شامل لتاريخنا القديم.

وأذكُر لقائي الأول به، حينما قَادَنِي القدرُ لأن ألتقيه قبل أكثر من 20 عاما، عندما زُرته في موقع رأس الجنز الأثري، وأخذنِي حينها في جولة بالموقع، سَرَد خلالها وشرح -بإعجاب شديد- أسرارَ تاريخنا الموغِل في القِدم؛ معدِّدا مآثر أسلافنا الأُوَل ومغامراتهم في ارتياد البحار، وتشييدهم لحضارة تُضارع في شموخها حضارات الفراعنة والإغريق والكنعانيين، فسَرَد عليَّ تفاصيل رحلة طويلة من الاكتشافات الأثرية المهمَّة، استأثر بالحديث حينها عن موقع رأس الحمراء، الذي توصَّل إليه في أول زياراته لعُمان عام 1975، وتمَّ التنقيب فيه بشكل أوسع بعد وفاة صاحب السُّمو السيِّد فيصل بن علي بن فيصل وزير التراث والثقافة السابق، بمنطقة القرم - بالقرب من فندق كراون بلازا حاليا - بعدما بِيْع منزل مَعَاليه إلى أحد المواطنين الذي قام بتقسيم الأرض لبيعها كاستثمار، وكيف أنّه وخلال حفر الأراضي ظهرتْ قُبور أثرية تعود لعصور أقْدَم من عَصْر الفراعنة، فيما يُعرف بـ "العصر البرونزي المبكر". وموقع هذا الاكتشاف الأثري يُكمل جدارية كشوفات آثارنا القديمة في مسقط العامرة؛ إلى جانب موقع الوطية -أقدم موقع متطوِّر في شبه الجزيرة العربية- ومستوطنة رأس الحمراء.. وغيرها.

كلُّ هذه التفاصيل كان لمجلة "الرُّؤيا" السَّبق في كَشْفِها عبر تحقيق تضمَّن موضوع بِيْع أرض الموقع وتقسيمها، والتي أثارتْ تحفُّظات مُجتمعية وقتها؛ ونظَّمنا حملة لوقف عمليات البيع؛ كَوْن المنطقة مَوْقِعا أثريا يجب صونه والمحافظة عليه، إلى أنْ جاءت الاستجابة لطرحنا بالاحتفاظ بجزء من الأرض ومواصلة عمليات البحث والتنقيب.

إنَّ توزي -الذي تعرَّفت إليه عن قرب- لم يكُن ليُشْعِر أحدًا بأنَّ همومه بالتاريخ الحضاري لعُمان لمجرد أنه باحث؛ بل كُنت أتلمس بين كلماته حميمية تجاه عُمان وكأنه أحد أبنائها؛ وهو ما دلَّل عليه بهذا الكم من البحوث الأثرية التي دوَّنها والبعثات التي قادَها على مَدَى أكثر من 40 عاماً. وتكريمًا لجهوده عيَّنته وزارة التراث والثقافة مستشارًا؛ فقدَّم خدمات جليلة إلى أنْ طلب التقاعد في نوفمبر الماضي، بعد مسيرة حافلة كان له فيها مهام مباشرة بالاستكشافات والتقارير، وغير مُباشرة بتمثيله عُمان عالميًّا في عديد من الندوات والمؤتمرات الدولية بأوراق عمل تُعرِّف بخصوصية التاريخ الأثري القديم لعُمان.

لقد رَحَل توزي، وتركَ وراءه ثراءً يستمدُّ خلودَه من حضارتنا العُمانية القديمة، جَمَعه في كتابه القيِّم "ظلال الأسلاف" بالاشتراك مع رفيق دربه العالم الأثري الراحل سيرج كلوزو، كمرجع مُهم أصدرته وزارة التراث والثقافة..

رحل توزي وعزاؤنا الوحيد أنَّه كان يعرف أنّه في الدنيا "عابر سبيل"، وأنَّ الحياة ليست سوى كُرة من الزجاج.