لن تنجب أرض البحر في الشرق مثله (2- 2)

 

 

 

سارة البريكية

 

إنّ ذلك الطفل الذي تنبه يوما لزرقة ذلك الماء المالح وشبّ وجسده يزداد به صلابة، أصبح علما في حقل الفن والسينما والإنتاج وأشياء من ذلك تُعرف، وأضحى واحدا من الذين أشير إليهم بالبنان، فكان نجما تألق في سماوات الإبداع المختلفة، وزاد على ذلك أن ترك بعد وفاته بصمة سيخلدها التاريخ بأحرف من نور، وليس كل إنسان برحيله يترك بصمة وأثرا، إلا أن فقيدنا لكم تمنينا أن يكون اليوم بيننا.

إن لأهل الساحل والمدينة التي ترقد على سطح الشاطئ قصصا من نوع آخر، فهم يتميزون عن غيرهم بصفات عدة، ومزايا لا يتشابه الجميع معهم فيها، ولأني نشأت في قرية ساحليّة مطلة على البحر، أدرك تماما ماذا يعني البحر لجيران البحر، وماذا يمكن أن يكتسبوا منه، فمن التاريخ البحري المجيد الموغل في القدم، إلى البطولات التي سطرها الأجداد والآباء عبر المحيطات والخلجان ودروب التجارة البحرية، إلا أن الذي ودعناه مساء السبت كان يستقرئ المستقبل بنظرة النوخذة والربان الماهر، نظرة وثابة مليئة طموحا وثقة، وكان بذاته مدرسة تعلم وتدرس، فأوحى له البحر منذ نعومة أظفاره: أن كن مثلي كريما جواد معطاء ولا تتنكر.. ففعل ذلك رحمة الله عليه، واستحق حب الناس طوعا لا كراهية.

تعتبر رؤية أهل البحر وهم ينوون دخوله وسماع همهماتهم وتعالي صيحاتهم في مشهد يومي متكرر شيئا مبهجا، يولد من رحمه رجال يزاحمون من أجل الحياة، ويقدّمون عظيما من أجل البقاء في الحياة، وكان هو مثلهم مناضل شجاع مغامر، فكان صوت النهام الموسيقي وهو على ظهر السفينة الذي ألفه، يرفع من معنويات البحارة وهم على ظهرها، بينما كان يلهم سالم بهوان عطاء من نوع مختلف، فكان يستشعر في ذلك متعه وراحة، وانعكس ذلك في إفادة ذوي المواهب ومحبي التمثيل والفن وآخرين.

ثمة مشهد يكون قصة تنسج من خلالها أحداث وأحداث، وثمة مواقف تُكوِّن عالما من الواقع الذي يفيد، إلا أنّ هدوء الليل واستنشاق رائحة البحر من على دريشة الغرف المطلة على البحر  هو الآخر سقف فيه استحضار لصور جمالية تراها في رابعة النهار وسطوع الشمس، أو في سكون الليل وانبلاج النجم والقمر على سماء صافية، فبدون شك لمنظر القوارب والسفن التي ترقد في التربة البحرية، جمال صنعه الإنسان مثلما صنعت مدينة صور العفية نواخذة وربابنة وراحلنا الكبير الفنان سالم بهوان المخيني، الذي استلهم من مدينته الساحلية الكثير والكثير، ووظفه في حياته الفنية والخاصة والعامة.

سالم بهوان هذه الشخصية التي رحلت عنا فجأة، كانت له مع مدينته قصة لم يحكها بعد، ولم يمهله القدر ليجسدها في برامج ومشاهد سينمائية وتلفزيونية وغيرها من الطرق والوسائل، فهذه الولاية الساحلية قدمت لنا هذا الرجل الذي ذهب عنا وهو في قمة وأوج عطائه، بشكل مختلف انفرد وتميز فيه، وشهادتنا فيه مجروحة، فكان عطاء الراحل لفناننا سالم بهوان كعطاء البحر لا ينضب أبدا، ويكفي من ذلك بشاشته التي تأسر القلوب، فالبشاشة خير من العطاء فكيف إذا حاز المرء البشاشة والعطاء، وهو ما لم يفرط فيهما الإثنين فجمعهما رحمة الله عليه كليهما.

ولطالما كانت العفية تفيق على منجز لابنها البار سالم بهوان، إلا أنّها كانت كثيرا ما تصحو على جمال أعماله الفنية والإنسانية التي اجتمعت وشكلت تجانسا جميلا، فمبكرًا وجد الجميع أنّ الراحل مليء إنسانية ورحمة وعطفا وصاحب رسالة، فحينما تراه يحتوي طفلا ويحمل آخر ويقبل مثله هناك ويعانق بأحضانه مثيلا له، يتأكد لك كل ذلك، وتقف على نبل وأخلاق هذا الإنسان الرائع وجماله الأخلاقي والروحي اللامحدود.. نعم خسرنا الشيخ سالم بهوان المخيني خسارة لا تعوض ونعزي أنفسنا على فقده.

إنه حينما فاجأ ريب المنون الفنان الشيخ سالم بهوان لم تلبس صور لوحدها لونا أسود، بل بكته الطبيعة وما عليها من حياة، بكاه البحر والسفن والأشرعة والصواري وطيور النورس وبقايا الأشياء، الجميع حزن لفراقه، بل جنازته المهيبة أكدت أنّ صور انجبت شخصية لن تجود بمثلها أبدا، فهو من كسب قلوب الكثيرين من الناس بطيبته وأخلاقه وابتسامته وضحكاته المعهودة.

وفي هذه السطور أتمنى أن تنجب صور سالم بهوان آخر الذي ذهب بصفاته ومميزاته وإيجابياته، ولن يرجع إلا أنها باقية فينا ومحفورة بداخلنا، وشخصيا قد حظيت بالتحدث معه في مناسبات مختلفة، وكان دائما يشد من أزري ويشجعني ويقول لي إنك إنسانة شاعرة من نوع مختلف، وكاتبة مجيدة تشقين طريقك بنجاح وبجدارة، فأنا متابع لك وأقرأ لك، واستمتع بأشعارك وبكتاباتك، فيا الله.

اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه، لقد حزنت كثيرا حينما بلغني خبر وفاته، وبكيته لأني أعلم بأن سالم بهوان مات، ولكن إنسانيته وطيبته وأخلاقه ووضوحه لن يموت، فرحمة الله عليه قلما لا تراه مبتسما أو ضاحكا، وقد قال الشافعي "قد مات قوم وما ماتت مكارمهم وعاش قوم وهم في الناس أموات.

إن الفنان الراحل سالم بهوان كان شخصا مختلفا، فليست العبرة في الإنسان الذي لديه مال ومنصب وجاه وهو متجهم ومتكبر ومتغطرس وشر خلق الله في الأرض، بقدر ما يجمع الإنسان صفات تحببه من الناس كالتواضع والتسامح والرحمة والعطف والطيب والكرم والشهامة وحب الخير للناس وخدمتهم.

فرحمك الله يا أبا حمد أستاذي العزيز، وتغمدك بواسع رحمته، وأسكنك فسيح جناته، ووالله إنا لفراقك لمحزونون، متقدمة إلى آل بهوان الكرام وعوائلهم وأسرهم وأهلهم، بخالص العزاء وصادق المواساة في فقيدهم ومصابهم الجلل، وإنا لله وإنا إليه راجعون وأفجعت قلوبنا يا أبا حمد برحيلك، ونم هانئا في جنات الخلد مع النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا اللهم آمين.. اللهم آمين. 

 

Sara_albreiki@hotmail.com

 

تعليق عبر الفيس بوك