آفاق الملكية الفكرية (5)

د. يحيى الريامي

إنَّ مصطلح الحداثة مصطلح مُحدَّد المعنى والدلالة، وإنَّ الحداثة ليس لها تاريخ وإنَّ أبجدياتها لا تختلف من حضارة لأخرى، أو من حقبة تاريخية إلى أخرى، وأنّ هناك حداثة واحدة، وعادة ما نعود للمعاجم الغربية لنعرف المعنى الدقيق لأيّ مصطلح وما الهدف منه على وجه الدقة، وبعد أن نقرأ التعريفات المُختلفة للمصطلح ونتقبلها كلها أو بعضها بأمانة بالغة، تصبح الإشكالية هي كيف نترجمه دون أن نختبر هذه التعريفات ومدى مطابقتها للواقع سواء كان واقعنا أم الواقع الغربي، ودون أن ندرس المراجعات التي يهدف إليها المصطلح في الغرب، ودون أن ندرس تاريخ تطور الظاهرة التي يشير إليها هذا المصطلح، ومصطلح التحديث لا يشكل أي استثناء لهذه القاعدة فتوجد تعريفات كثيرة لمفهوم الحداثة، لكن ثمة ما يشبه الإجماع على أنَّ الحداثة مرتبطة تماما بفكر حركة الاستنارة الذي ينطلق من فكرة أن الإنسان هو مركز الكون وسيده، وأنّه لا يحتاج إلا إلى عقله سواء في دراسة الواقع أو إدارة المجتمع أو للتمييز بين الصالح والطالح، وفي هذا الإطار يصبح العلم هو أساس الفكر ومصدر المعنى والقيمة، والتكنولوجيا هي الآلية الأساسية في محاولة تسخير الطبيعة وإعادة صياغتها ليحقق الإنسان سعادته ومنفعته.

كذلك، سؤال الحداثة يعني سؤال العقل، فالعلوم المعاصرة وثورتها المُستمرة تفيد بأنها علوم نسبية وأن ثورة المعلوماتية والرقمية أيضاً نسبية، وبالتالى فإنّ الحداثة لابد لها وأن تكون نسبية وأية تحولات تمس الإنسان عبر زمانه ومكانه في اتجاه التغيير ترافقها سماتها وخصائصها المعرفية والمفاهيمية والإبداعية وكل أشكال التمثل المختلفة. ولكن ثورة الحدثوية قد تعبر لنا عن ثورة العقل الإنساني على ذاته، والتي أفرزها تطور العلم والتقنية والمعلوماتية والرقمية وثورة النانو- تكنولوجي وعصر ما بعد الكتابة وهو ما يُعرف بخلق المعرفة أو تقديمها أو الحصول عليها عن طريق اللمس وعن بعد، بالإضافه إلى تغيير نظرة الإنسان إلى ذاته أدت به إلى إعادة اكتشاف نفسه واستخراج قواه وإعادة نظرته إلى الوجود وليس بإمكاننا تفسير الكون المادي والمعنوي بعقل ما قبل الطبيعة، بل حوّل الإنسان عقله من العالم اللامرئي إلى الواقع، هذا الواقع الجديد أسهمت فيه ثورة المعلوماتية والتقنية، وكذلك العلوم الإنسانية حتى أصبح العلم نسبياً وتحول العقل إلى مجرد آلة اصطناعية. إلا أنَّ كل ذلك أنتجه العقل الإنساني ويظل المُثير في هذه التجاذبية في أن الحداثة مرحلية وانتقالية ومفتوحة على كل الأسئلة، فهي صياغة كونية وإنسانية تفرضها رهانات ثورة المعلوماتية والثورة الرقمية والنانو- تكنولوجي .فالحداثة ترغمنا على شق الطريق عبر التراكم لكل ما ينتجه العقل، فهي توجه لاإرادي ومد جنوني يغذيه العقل وتقدم لنا إكراهات تطوقنا ثقافياً وتطوق وجودنا فيها. ليس ذلك فقط ولكن تلزمنا بالتفاعل معها رغم إرادتنا، فهي من منظور آخر ممارسة عقلية لقوة الانتشار العقلاني عبر المكان والزمان مخترقة كل ما هو تقليدي وتراثي غير قابل للانتقال إلى عربة المستقبل.

 إنّ المعاصرة لها حدود ملتزمة بالأصالة وتحتاج إلى قضبان تتناسب مع عربات الحداثة والمعاصرة، ليس ذلك فقط ولكن الفصل بين أزمة المُثقف العربي وأزمة الواقع العربي، باعتبار أنّ أزمة المثقف العربي وليدة صراعه مع واقعه وهويته ونظامه الداخلي، وأزمة الواقع العربي وليدة لعوامل خارجية وداخلية معاً، وتظل تداعيات الحداثة والعولمة إحدى أوجه أزمة المثقف والواقع العربي. ولفك الاشتباك بين الأزمتين يتوجب حضور مثقف عربي قادر على تفكيك رموز أزمة الأمة وصنع الدور وتقديم المسؤولية، المثقف العربي لا ينحاز إلى تيار التغريب أو تيار الدولة أو تيار السلطة، بل المثقف العربي منحاز إلى التيار المجتمعي قادر على حمل لواء رهان المعاصرة والعصرنة بعيداً عن الحداثة المشوهة لفقدانها للمنوال وانكسار اتجاهات بوصلتها. ولأن الحداثة هي سؤال الحاضر والمستقبل للمجتمع العربي وهي مربط الفرس والثورات العربية المعاصرة معنية بأسئِلتها وفك رموزها، وهي معنية بتوفير الإجابات الفكرية كاستحقاقات لها.

المرجع أطروحة الدكتوراه (الملكية الفكرية والحماية القانونية للمعارف التقليدية الموروثة - التحديات والحلول).

[email protected]