الأزمة الاقتصادية العربية لا تحل بإدارة الظهر لها

عبيدلي العبيدلي

في نبرة واضحة غير مُغلفة بأيّ من صبغات التجميل المُستخدمة عند الحديث عن الواقع الاقتصادي العربي، يُخاطب الخبير الاقتصادي مروان معشر صناع القرار، في مقالته المعنونة "إنذار اقتصادي أخير للعالم العربي"، محذرًا إياهم بأنّه "إذا لم تبدأ دول الشرق الأوسط بإحراز تقدم حقيقي على مسار الإصلاحات السياسية والاقتصادية الجوهرية، فإنَّ هذا يعني حتماً المزيد من الاضطرابات الإقليمية. ففي ظِل الأنظمة الريعية التي أبقت عليها الحكومات لعقود من الزمن عند نقطة الانهيار، يتعين على صناع السياسات أن يشرعوا في تنفيذ العملية الصعبة، ولكن غير المُستحيلة، المتمثلة في إنشاء عقود اجتماعية جديدة. الواقع أنَّ هذه العقود في الدول العربية بدأت تتآكل في مطلع القرن، عندما لم يعد بوسع الحكومات في ظِل ميزانيات متضخمة وأجهزة بيروقراطية مُترهلة توفير المدد الكافي من الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم، أو خلق عددٍ كافٍ من الوظائف، أو تحمل إعانات دعم الغذاء والوقود."

وينهي المعشر مقالته التحذيرية بالقول "تمكنت الحكومات العربية من الإبقاء على اقتصادات تفتقر إلى الكفاءة لعقود من الزمن لأنها كانت مدعومة بعائدات النفط. واستخدمت الدول المُنتجة للنفط والغاز أرباحها لشراء ولاء مواطنيها وإقامة ما كان يُعَد فعلياً دول الرفاهية .... ولأن حكومات الدول المنتجة للنفط كانت تستخدم العائدات لتوفير أغلب احتياجات شعوبها ــ بما في ذلك الوظائف، والخدمات، والعطايا ــ فقد عززت هذه الحكومات ثقافة الاعتماد على الغير، بدلاً من تشجيع الاعتماد عل الذات وروح المبادرة والمُغامرة التجارية لتوسيع القطاع الخاص".

يُشارك المعشر هذا التشخيص المتشائم في نظرته للأوضاع الاقتصادية العربية الراهنة تقرير المنتدى الإستراتيجي العربي في دبي، عند تناوله "أزمات العالم العربي الاقتصادية ". حيث يتوقع التقرير أن أزمات الاقتصادات العربية "مرشحة (للتوالد)، وأن المشاكل الاقتصادية في الدول العربية ستواصل تزايدها في عام 2016. (وهذا يعود) إلى استمرار انخفاض أسعار النفط الخام، والفشل في تنويع مصادر الدخل، واستمرار الحروب الأهلية والأوضاع الأمنية، وتأثيراتها الممتدة، وتدني مستوى الفرص التعليمية. (ويضيف التقرير أنه) في حال استقر سعر النفط عند 45 دولاراً للبرميل، فإنّ المنطقة ستُعاني من عجز في رأس المال والموازنات، لكن في حال ارتفع سعر النفط ليتجاوز مستوى 70 دولاراً للبرميل لفترة طويلة، فإن الدول المصدرة ستتمكن من جمع واردات خزينة تصل إلى 6 تريليونات دولار على مدى 10-15 سنة القادمة".

ولا يختلف الباحث والأستاذ الجامعي محمد مراد عمَّا ذهب إليه المعشر و"تقرير دبي"، لكنه يتناول مؤشرات الأزمة من زاوية مختلفة هي معدلات البطالة، فنراه ينوه إلى أنّه "على الرغم من أنّ المتوسط العربي لمعدل نمو فرص التشغيل سجل خلال السنوات الأولى من العقد الحالي – العقد الأول من القرن الحادي والعشرين – حوالي 2.6% كمؤشر لانخراط قوى عاملة جديدة معظمها شاب في سوق العمل، إلا أنَّ هذا المعدل بقي أقل من المعدل العالمي لنمو العرض من العمالة والبالغ حوالي 3.2%. (ثم يعود كي يحذر من أن انعكاسات البطالة السلبية على الاقتصاد) لم تقتصر على قوى عاملة خارج سوق العمل بقطاعاته الإنتاجية الزراعية والصناعية والخدمية، وإنما أيضًا طالت نسبة عالية من خريجي الجامعات العربية من أساتذة وأطباء ومهندسين وفنيين وإداريين وغيرهم. ثم ينهي تشخيصه للأزمة منوهاً إلى أنه إذا كان العجز الاقتصادي وغياب السياسات التخطيطية العربية وراء ارتفاع معدلات البطالة، فإنّ هذه البطالة كانت بدورها الدافع الأكبر إلى هجرة عربية اتخذت، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وما تزال حتى اليوم، تواصل نزيفها القاتل لنمو الاقتصادات العربية.

"معهد نماء للبحوث" يعالج بدوره مسألة الأزمة العربية من بابها السكاني، حيث يرى أنّ البنية الديموغرافية العربية تشكل "أحد المحركات العميقة للحراك المجتمعي العربي، وهي بنية لا يُمكن تغييرها في فترة قصيرة؛ مما يعني أن فعلها الماضي في السنوات السابقة سيبقى فاعلاً خلال الأعوام القادمة، ويكفي التوقف عند المؤشرات التالية: الزيادة السكانية وتزايد الشباب في الهرم السكاني، حيث تُعد المنطقة العربية من بين أكثر ثلاثة أقاليم في العالم زيادةً في عدد السكان، وهو ما يشكِّل عبئًا كبيرًا في ظل الأوضاع العامة السائدة؛ الأمر الذي يُبقي المجال مفتوحًا للاضطرابات المجتمعية بأشكالها المختلفة خاصة وأنّ نسبة الشباب في المجتمع العربي تفوق 68٪، وهم الشريحة الأكثر ميلاً لممارسة العنف".

هذه الكتابات والتقارير الرصينة، وأخرى كثيرة غيرها ومن مستواها، تحذر جميعها، ليس من وجود أزمة اقتصادية عربية فحسب، وإنما هناك من المؤشرات ما ينذر باستفحالها واستمرارها، وإن حلها لا يتأتى بإدارة الظهر لها أو القفز "الأكروباتي" على حبال سيركها، أو التوقف عند مُعالجة أعراضها، بل بالتوقف الجاد المسؤول أمام أسبابها والبحث عن علاجات شافية لتلك الأسباب.

وأول خطوة على طريق الحل هي الاعتراف الصحيح والصريح بوجودها، يلي ذلك وضع الخطط العلمية البعيدة عن مساحيق الإعلام والعلاقات العامة لحلها، مستفيدين في ذلك من خبرات محلية كفؤة، تعضدها أخرى عالمية راغبة في الوصول إلى علاج قادر على الانتقال بالبلاد العربية من محطة الأزمات التي يمكن أن تستقر فيها ولفترات طويلة، إلى طريق الحلول التي ينبغي أن تشق مسيرتها عبرها.

الأهداف واضحة، والأدوات متوفرة، وليس هناك ما ينقصها سوى القرار السياسي الذي ينقلها من مجرد سحب دخانية إلى برامج حقيقية وخطط واقعية.