كقرآن الفجر

 

مريم اللمكية

 

أوقات الحياة مع الإيمان وبالإيمان ذخيرتك العتيدة لما هو آت ..

إنَّ أوقاتا أو لحظات إيمانية صادقة تملأ القلب سكينة وطمأنينة، نُجدد فيها إيماننا بالله تَعالى، نقضيها في عبادة أو طاعة أو عمل نبيل، لا تُشتَرى الطمأنينة والنور الذي تمنحنا إياه بكنوز الدنيا قاطبة لو أدركنا ذاك ووعيناه. ولنستمع إلى ما قاله مصطفى صادق الرافعي وهو يتحدث عن مثل تلك الأوقات واللحظات الإيمانية الصادقة وهو "الأديب الأروع والشاعر الثائر المبدع : ...وكنُّا نسمع قرآن الفجر وكأنما مُحيت الدنيا التي في الخارج من المسجد وبطل باطلها، فلم يبق على الأرض إلا الإنسانية الطاهرة ومكان العبادة؛ وهذه هي مُعجزة الروح متى كان الإنسان في لذة روحه مرتفعًا على طبيعته الأرضية" (الرافعي،650). والأعجب والأروع أن هذا الأديب المبدع الذي حمل قضايا الإنسانية والقيم والفضائل عبر سطور أدبه الراقي، سفناً تُبحر في عباب بحور معانيه الزاخرة ليصل بها إلى شواطئ الأمان، عاش تلك اللحظات وهو "في العَاشرة من عُمره، وقد جمع القرآن كله حفظًا وجودة بأحكام القراءة " (الرافعي، 648)، فعبَّر عنها بذلك الوصف العميق، وهو الذي تربَّى في ظل الإيمان.

لم يتوقف الأمر عند هذا، بل إنَّ تلك اللحظات الصادقة الخاشعة التي كان يستمع فيها إلى قرآن الفجر امتد أثرها لتصنع من ذلك الطفل إنسانًا مبدعاً تألق أدبه مؤثِّرا قويًّا ليملأ الآفاق، وهذا ما أشار إليه بنفسه حين قال: "أما الطفل الذي كان فيَّ يومئذ فكأنما دُعِي بكل ذلك ليحمل هذه الرسالة ويُؤدِّيها إلى الرجل الذي يجيء فيه من بعد؛ فأنا في كل حال أخضع لهذا الصوت : "ادع إلى سبيل ربك" [النحل : 125]؛ وأنا في كل ضائقة أخشع لهذا الصوت : "واصبر وما صبرك إلا بالله" [النحل : 127 ] !" (الرافعي، 650)، وتلك الآيات كانت مما أنصت إليه خاشعاً مطمئناً في قرآن الفجر خلال تلك اللحظات الغالية الثمينة.

 وهكذا فإنَّ الإيمان بالله سبحانه وتعالى إيمانا صادقا خالصا قوة تذكي في داخلنا قوة التمسك بتحقيق ما نطمح إليه، وتعيننا على الصبر والتحمل واستقراء سطور انفراج الكُرَب والهموم بين صفحات المعاناة وإن طال الانتظار.

فالإيمان بالله تعالى يمدك بالثبات ويقوي إيمانك بما تقوم به وهذا ما يصنع الفرق ويًشكل نقطة التحوّل في حياتك؛ لأنَّ الإيمان بالله والثقة به تمنحك قوة الإرادة لتحقيق أهدافك، فضعف الإنسانية عمّا يحققها وتقاعس الأفراد لا ينشأ عن نقص المادة بل عن نقص صناعة الفضيلة تلك القوة الروحانية الباعثة على الاستمرار والتي يُعمقها الدين والإيمان، إذ إنَّ من أهم أسرار النجاح قوة الإرادة المتجددة وهذا ما يمنحك إياه الإيمان، والفضيلة تعني في أهم معانيها تحقيق الخير والحق والعدل، وهذا ما يجعل لأهدافك قيمة ومنفعة لك وللآخرين، ويكسبها أهمية في معنى الاستمرار.

وبالإيمان تتحقق السكينة والطمأنينة والثبات وهي حالة نفسية مستقرة تُعدُ من أهم البيئات النفسية التي تُعين صاحبها على التخطيط الواعي، فالله سبحانه وتعالى يُؤيده ويسخِّر له ما يُيسر أموره قال تعالى: "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا" [سورة الفتح:4]. والسكينة والطمأنينة والثبات نعمة عظيمة تعرفها جيداً النفوس المؤمنة بربها حق الإيمان، فهي التي عرفت وجربت أثر الإيمان في استقرار هوائجها وثباتها على الخيرات وبعدها عن المعاصي وسفاسف الأمور التي لا تسمن ولا تُغني، فيرتد أثر هذا الاستقرار في كل ما حولها إيجابًا، ليغدو الثبات على أهدافها سمتها وإن حادت عن طريقها أحياناً أعادها إليه إيمانها.

 إنَّ الإيمان بالله سبحانه وتعالى يُعمق الإحساس بهذا الوجود واستكشاف ما أراد الله كشفه لخلقه من أسرار وعجائب لا تنقضي، فحين ننظر إلى أنفسنا إلى المخلوقات من حولنا إلى السماء بشمسها وكواكبها ونجومها إلى الأرض بشجرها وطيورها وأنهارها وبحارها وجبالها، حين ننظر لكل ذلك بتفكر وتدبر ببصيرة وتأمل بنفوس اطمأن كيانها بالإيمان، يضاف إلى ذلك التفكر والتدبر إلى تلك النظرة والتأمل إحساس عميق يعمق صلتنا بمصدر خلقها.

ذلك هو الإيمان حين يملأ القلب فإنما يسمو بصاحبه لكلِّ ما فيه رفعة الإنسانية ومجدها وعزتها، فيمتلئ وقت المؤمن بكل ما فيه النفع والرقي، وينأى عن كل ما فيه مضيعة الوقت ومفسدة الأمور، فالإيمان يدل صاحبه على الخير قال تعالى: "هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ" [سورة الأنعام: 158].

 وحقيقة الإيمان أن تحب الله سبحانه وتعالى فيُحبك، وفي الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنَّ الله تعالى في الحديث القدسي قال : "من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتَّى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه" [رواه البخاري]، فأيُّ معية أعظم من أن يكون الله تعالى معك، وأيُّ جمال ذاك الذي يُضاهي قرآن الفجر.

تعليق عبر الفيس بوك