التمسوا لحكامكم سبعين عذرًا!

 

 

علي المعشني

 

الحقيقة أنَّ العنوان أعلاه لا يَعْنِي حثَّ الشعوب العربية على الإذعان للضيم والظلم، وتمرير الفساد والسكوت على المفسدين، بقدر ما يَحْمِل من جرعة بأهمية الوعي السياسي والتسلُّح بالعمق الفكري، وتجنُّب السطحية في إطلاق الأحكام والتحليلات الخاطئة؛ وبالتالي تمرير المؤامرات، وتقديم خدمات مجانية للخصوم والعملاء على حساب الأوطان والشعوب.

حين انطلق ما سُمِّي "الربيع العربي" من تونس عام 2011، كلنا فرحنا بالتغيير وتمنينا للأشقاء في تونس تحقيق الغلبة على حكم زين العابدين بن علي، وانتزاع ما يمكن انتزاعه بإرادتهم الوطنية الحرة، كما تمنينا أن تنتقل تلك الحمى الثورية الحريرية إلى جميع الأقطار العربية، والتي عانت بعضها من التكلس والعفن السياسي إلى درجة التحلل التدريجي.

شخصيًّا.. وبعد الخطاب الثاني للرئيس التونسي زين العابدين بن علي ووعوده للشعب بعدم الترشح لعهدة رئاسية قادمة، وبإصدار دستور جديد للبلاد وقانون للأحزاب وآخر للإعلام والحريات الصحفية والاعلام الألكتروني، وتكفله بـ350 ألف وظيفة للشباب التونسي العاطل عن العمل، مقابل إنهاء الاحتجاجات وحفظ الدماء وأمن البلاد. أقول شخصيًّا رحبت بالخطاب وكتبت بعده مقالًا بعنوان "اللحظة التاريخية التي أضاعها التونسيون"، وضَّحت فيه أنَّ بن علي ونظامه في أوهن حالاته، وأن ما صدر عنه هو إقرار تاريخي منه بمنظومة الفساد في نظامه وسلوكه السياسي، وصك اعتراف منه بانتصار إرادة الشعب وأهمية الإذعان للرياح السياسية والعواصف الهوجاء التي تعصف بالمنطقة والمرشحة للمزيد من المفاجآت والتطورات الخطيرة، والتي قد تفوق طاقات النظام والدولة بجميع أطيافها وهو ما حدث بالفعل حين تكشف الربيع وحقيقته، وانفجر في جغرافيات أخرى ولأهداف وغايات وأجندات أجنبية وبسواعد وطنية للأسف.

كان ترحيبي بخطاب بن علي الثاني مبنيًّا على ما ذكرته أعلاه، وبناء على الخوف من المجهول القادم، وراهنت على وعي الشعب التونسي الابن الشرعي لمدرسة الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة والتي كانت ترفع شعار: "خذ وطالب"، هذا الشعار الذي بفضله انتزعت تونس وزعيمها بورقيبة الاستقلال من فرنسا عام 1956 بعد سلسة من المطالبات والمفاوضات والتنازلات التدريجية من فرنسا.

لا شكَّ أنَّ عهد بن علي ليس كعهد بورقيبة، وأن مطالب التحرر من الاستعمار لا تقارن بمطالب الإصلاح، ولكن القاسم المشترك بين الحقبتين هو الوعي والإدراك بأهمية المرحلة والممكنات المتاحة. ولا شك كذلك أنَّ أزمة الثقة بين نظام بن علي والشعب التونسي بلغت مرحلة متقدمة من التعاظم، والتي يصعب تجاوزها ونسيانها بيسر، ولكن الوطن يحتاج في مرحلة ما إلى تضحيات جسام وعقليات من نوع خاص لكي يعبر الأزمات ويستعيد عافيته.

علمتُ فيما بعد من أشقاء تونسيين أنَّ هناك قواعد شعبية وحزبية تفاعلت مع خطاب بن علي كله على قاعدة "سيئ نعرفه خير من أسوأ قد نعيشه"، ولكنها لم تكن مؤثرة ولا فاعلة، كما لم تكن بقوة وتأثير من رسم السيناريو وخطط للأزمة وحدد مراحله وأدواته وصورته النهائية المطلوبة.

ما لم يفهمه التونسيون حينها، وبجميع أطيافهم، هو كيفية تأمين الرئيس بن علي لـ350 ألف وظيفة في بلد محدود الموارد؟!! فهذا الرقم على الورق وبحكم ممكنات تونس لا يمكن تحقيقه إلا بمعجزة، في زمن لم تعد فيه معجزات، والممكنات هي من تتحدث وتفرض نفسها، فعلى ماذا راهن بن علي في وعده هذا يا ترى؟!

والجواب عرفته من صديق تونسي زار السلطنة عام 2015؛ حيث أكد لي صحة رؤيتي في مقالي عن تونس من واقع النتائج على الأرض اليوم، وأن الحكمة كانت تقتضي القبول بمبادرة بن علي، وإعفاء البلاد والعباد من المجهول، والمزيد من نزيف الدماء والمقدرات. وأكَّد لي صديقي هذا أن رقم التوظيف المحير افتكت شيفرته حين زار ليبيا عام 2011 في بداية أزمتها رفقة عدد من النخب التونسية المتضامنين مع ليبيا؛ حيث استقبلهم العقيد القذافي لساعات ثم دعاهم الخويلدي الحميدي عضو القيادة التاريخية لثورة الفاتح لوليمة غداء في منزله، وحدثهم عن زيارته السرية لتونس ولقائه بالرئيس زين العابدين في بداية أزمتها، وتعهد ليبيا بتأمين إعمار وتنمية ولايات الجنوب التونسي الثمانية بجميع البنى الأساسية والمرافق الضرورية مع تكفل ليبيا بتأمين 350 ألف وظيفة للشباب التونسي.

المهم في الأمر أنَّ المؤامرة كانت أكبر بكثير من الحلول الوطنية والإقليمية؛ حيث أزيح نظام بن علي ودمرت ليبيا بعد ذلك، وفقد مليون و200 ألف تونسي وظائفهم في ليبيا "الجديدة"، أغلبهم من ولايات الجنوب التونسي، والذي يُعاني أساسًا من التهميش وفقدان الكثير من عوامل التنمية منذ استقلال تونس.

وفي العام 1986، وفي شهر أبريل بالتحديد، تعرَّضت ليبيا لاعتداء عسكري أمريكي طال كل من طرابلس العاصمة وبنغازي، واستهدف حياة العقيد القذافي وعدد من المرافق العسكرية والمدنية، وتسبب في قتل وجرح المئات من الليبيين. قامت على إثرها ليبيا -وبعد استيعاب الضربة- بتدمير منظومة الرادارات الأمريكية في جزيرة لامبدوزا الإيطالية، تلك المنظومة التي كانت تغطي سواحل البحر الأبيض المتوسط، وعلى إثر ذلك تواصل رئيس الحكومة الإيطالية حينها كرايسكي مع صديقه معمر القذافي هاتفيًا، وقال له: "أخي معمر، أنا وحكومتي نتفهم ما لحق بكم من ظلم واعتداء، وأتفهم كذلك رد فعلكم بتدمير منظومة الرادارات في لامبدوزا، ولكن ما أريد أن أخطركم به هو أنَّ الجزيرة أرض إيطالية، وإن كان عليها قاعدة أمريكية، وأرجو أن لا تتمادوا في الثأر من أمريكا باستهداف المزيد من أهدافها على أرضنا؛ كي لا نضطر للرد عليكم مجتمعين نحن وحلف الناتو معًا".

في التاريخ المعاصر لسوريا، ومنذ عهد الاستقلال لا يُمكن لحاكم في سوريا أن تستتب له البلاد ومقدراتها ما لم يراعِ التوازنات الاجتماعية، ومراكز القوى النافذة في سوريا وفي دمشق بالتحديد من تجار وعلماء دين وملاك وآغاوات (تجار الحبوب)، وهم طبقات إقطاعية مؤثرة ونافذة لغاية اليوم، وأغلبهم من أسر غير عربية (أتراك، كرد، تركمان)؛ وبالتالي فمن لم يسيطر عليهم بالترهيب والترغيب أو الاثنين معًا فلن يستقر لهم حكم على سوريا، فهم يدعمون من يحافظ على مصالحهم ويدعمها ولا يمس بها، لهذا عانت سوريا من موضة الانقلابات الدائمة وعانت من عدم الاستقرار السياسي لغاية عام 1971 حين تولى الرئيس حافظ الأسد الحكم فيها.

وفي العام 1983، وحين قرر الرئيس السوداني جعفر النميري تطبيق الشريعة في بلاده، قام جورج بوش الأب بزيارة خاصة للسودان، وكان حينها نائبًا للرئيس ريجان، وخيَّر الحكومة السودنية بين تطبيق الشريعة والتنقيب عن النفط في السودان عبر شركة شيفرون الأمريكية، وحين رأى إصرار السودان على المضي قدمًا في تطبيق الشريعة قام بسحب شركة شيفرون بذريعة الدواعي الأمنية وحرب الجنوب، مع العلم بأنَّ ما سُمِّي بالشريعة حينها كان عبارة عن منظومة مجزَّأة ومهترئة من الشريعة، وقرارت مستعجلة من النميري أصرَّ على تنفيذها وفوق هذا مجرد العنوان وهشاشة المضمون لم يسلما من استفزاز الغرب وعقوباته.

ويقول عالم الفضاء العربي د.فاروق الباز: "لي علاقات شخصية مع عدد من الحكام العرب، ولا يُمكن لأحد أنَّ يقنعني بأنَّ هناك حاكمًا عربيًّا واحدًا أتى خصيصًا لخراب بلده؛ فالظروف الموضوعية وحدها هي من تفرض توجهات الحاكم من الداخل أو الحارج".. ويقول رجل الأعمال والمفكر العربي طلال أبوغزالة: "تعرفت بحكم طبيعة عملي وفروع نشاطي في الوطن العربي على عدد من الحكام ورجال الدولة العرب، ويشهد الله أنني لم أتعرض لمشكلة ما إلا ووجدت لها الحل من الحاكم أو بعض كبار المسؤولين في هذا البلد أو ذاك؛ الأمر الذي رسخ قناعتي بأن ولاة الأمر متفهمون ومتعاونون إلى حد كبير في حل مشكلات المواطنين حين تصل بين أيديهم أو اللقاء المباشر بهم، والمشكلة تكمن في البطانة ولوبيات السوء".

هناك العديد والكثير من الأمثلة التي لا يتسعها مقال واحد بذات المضمون، والتي تُؤكِّد أنَّ مايدور خلف الكواليس، ويمارس على الحكام والحكومات والدول أكثر بكثير من المعلن عنه والمعروف والمتداول والمصرح به في غالب الأحيان، بل والمشكلة أنه لا يمكن حتى التصريح به أو تداوله خارج دائرة قرار ضيقة، وقد تكشف عنه الأيام؛ وبالتالي فمن العبث تفسير كل شيء أو توقعه من قبل معنيين في دائرة مراقبة أو اهتمام ممن ليسوا من صناع سياسات أو قرار في أي بلد.

مجرد التكهن والتسلح بالمعرفة وطرح الحلول الافتراضية من باب الوجاهة الفكرية أو حتى جرعة الوطنية الزائدة لدى البعض كفيل بإحداث بلابل قد تصحبها قلاقل لا يحمد عقباها، خاصة في المجتمعات الفتية والأقطار ذات المناعة السياسية الهشة.

وهذا يتطلَّب من النُّظم والحكومات الحيوية والفاعلة الانفتاحَ على النخب في مجتمعاتها، وتقاسم الهم الوطني المشترك بينهم؛ ليتناغم الطرح والخطاب والعلاج معًا وتتعزز الثقة بين دوائر صنع القرار والمهتمين بالشأن العام والعناصر الوطنية الواعية. وأنْ ينفتح رجال الدولة العرب السابقون على الأجيال بمذكراتهم وذكرياتهم بكل تجرد وشفافية لتحصين الوعي الوطني وخدمة للوطن.

من المؤسف حقًّا أن يخرج استطلاع رأي بتونس منذ أيام يعبر فيه أغلب المستطلعون عن رأيهم بأن الفساد في تونس اليوم أكبر منه في عهد بن علي!! وأن تتحول كل ليبيا والعراق إلى كانتونات ميليشيات وطوائف بزعم إسقاط الديكتاتوريات والطغيان.. وبالشكر تدوم النعم.

---------------------------------

قبل اللقاء: "لا تفكر في المفقود، فتفقد الموجود".

Ali95312606@gmail.com

الأكثر قراءة