محمد بن رضا اللواتي
بأفول شمس معرض مسقط الدولي للكتاب في وقت متأخر من مساء السبت الماضي، خبا الصخب الثقافي البديع الذي رافقه، وهدأت فوضى المعرفة الخلاقة التي أججتها أنشطته الفكرية المتنوعة، وما ميزه حقيقة، وبنحو يفوق السنة الفائتة، كثرة الأقلام العمانية التي دشّنت إصداراتها في هذا الرواق من المعرض وفي ذاك، ما دعا مجموعة من المثقفين لتناول مسألة معرفيّة بالمناقشة، وهي "ما مدى إمكانية ولادة خُطة وطنية لصناعة الثقافة في السلطنة؟ وما لوازمها؟"
ولكن يوجد سؤال أهم من ذاك الذي تداوله أولئك المثقفون، وهو: "ما الذي نتوخاه تحديدا من وجود "خُطة وطنية لصناعة الثقافة في السلطنة"؟
في عهد المأمون العباسي، صنعوا "بيت الحكمة" بما يعادل 366,700 ريال عماني، وقبع المترجمون فيه ينقلون بلهفة المؤلّفات الإغريقيّة والهندوسيّة والفارسيّة، من السريالية والفهلويّة والسنسكريتيّة، إلى العربية، ما بين عام 750م وعام 900م، نتج عن ذلك أن انكب عُشاق المعرفة بنهم على تلك المؤلفات يدرسونها ويهذبونها لكي تتلاءم مع توجُهات ثقافتهم الإسلامية، ليُتيح هذا الزخم آخر المطاف نبوغ عباقرة ملأوا الدنيا شرقا وغربا بالثقافة والمعرفة، ولنأتي على ذكر واحد من أؤلئك، إنه "أبو يوسف يعقوب ابن إسحاق الكندي" الملقب "بفيلسوف العرب"، الذي ما برح يهيم في تلك المؤلفات حتى خرج بتأليفات بلغت قرابة 265 كتاباً ورسالة سد رفوف المكتبة العربية بها، منها 22 كتابا في الفلسفة، و19 في النجوم، و16 في الفلك، و17 في الجدال، و11 في الحساب، و23 في الهندسة، و12 في الطبّ، و12 في الطبيعيّات، و7 في الموسيقى، و5 في النفس، و5 في المعرفة، و9 في المنطق. ولم يترك حتى التفسير والرؤيا والأحلام، إذ كتب فيها رسالة يشرحها، وألّف في الغذاء والدواء، وكيفيّة صناعة العطور، واختيار الأيام، وجهة القبلة! كل هذا العطاء الثر من قلم رجل، أتاحت له الأرضية المعرفية أن يمارس عملية "صناعة الثقافة".
هذا الذي تقوم به الأرضية المهيئة ثقافيا، وهذا تحديدا ينبغي أن يكون جدوى "صناعة الثقافة".
لم يلفت هذا النتاج الغزير من العلم "منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة" لتختار تاريخ ولادة أو وفاة "أبي يوسف الكندي" تخليدا لذكرى الكتاب والمؤلف، ولم تجد في ذكرى ميلاد الحكيم "الفارابي" والذي تأثرت أوروبا به كثيراً، فترجمت كتبه بنهم العام 1638م، وبرز هناك عدّة فلاسفة ورهبان، متأثّرين بآرائه، لدرجة أن الراهب الفيلسوف الفرنسيّ "فنسان ده بوفيه" (ت1264م) كان قد ضمَّ أجزاءً من فلسفة هذا الحكيم الكبير في صميم أعماله وتأليفاته.
أقول، لم تجد "اليونسكو" في ذكرى مولده أو وفاته تاريخا يليق بجعله يوما عالميا للكتاب والمؤلف، ولا في ذكرى مولد سلفه "الرئيس ابن سينا" أيضا، ذاك الذي ظلَّت أشهر الجامعات في الغرب تتابع تعليم كتابه القانون ضمن مناهجها حتى العام 1909م. وظلّ الأوروبيون عاكفين يترجمون موسوعته في إلهيات الشفاء ردحا من الزمن إلى أن أنهوا ترجمتها على مرحلتين؛ مرحلة مبكِّرة في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، ومرحلة لاحقة بعدها بنحو مئة سنة. وما أن تُرجم الشفاء، حتى تلقَّفتها الأيدي في مختلف العواصم الأوروبيّة، ونسخت منها عشرات المخطوطات، وكانت لها آثار عميقة في الحركة الفكريّة اللاتينيّة.
في طبيعيات "إبن سينا" آراء ونظريات أسهمت في النهضة العلميَّة الحديثة. إذ كان لأسلوبه في التجربة، مساهمة فعَّالة في وضع الحجر الأساس لبناء المنهج التجريبيِّ الحديث. لقد كانت هيمنته على فرانسيس بيكون (ت1626م) واضحةً جدَّاً. وأمَّا دوره وتأثيره الفلسفيُّ فيُعدُّ الأضخمَ والأكبرَ. فقد غذَّى بكتاباته في النفس وعلاقتها بالجسد وحقيقتها وخلودها، وجانبي المعرفة الحسِّية والإشراقيَّة فيها، القضايا التي كانت الفلسفة المدرسيَّة في الغرب في مسيس الحاجة إليها. إنّ القديس توما الأكويني قد استشهد بالشيخ الرئيس أكثر من 260 مرَّة في خلاصته اللاهوتيَّة.
وعوضا عن ذاك، فقد اختارت "اليونسكو" تاريخ 23 أبيرل (نيسان) لتكون مشهدا لليوم العالمي للكتاب والمؤلف، لأنه في هذا التاريخ توفي الكاتب المسرحي الكبير "وليم شكبير" وأيضًا توفي الكاتب الروسي فلاديمير نابوكوف، صاحب رواية "لوليتا" التي نشرت لأول مرة باللغة الإنجليزية عام 1955 والتي تتحدث عن أستاذ في الأدب يرتبط بعلاقة غير أخلاقية بفتاة في عمر الـ 12 عامًا!
على أية حال، إن كان قد جانب "منظمة الثقافة والفنون والتربية" التوفيق في اختيارها تاريخا يناسب لأن يكون يومًا عالميًا للكتاب والمؤلف، إلا أنّ مقترحها حول "الدورة الثقافية لتحويل الفكر إلى منتج" لا غنى عن التأمل فيه ومحاولة تطبيقه.
تبدأ الدورة الثقافية أولا "بمرحلة تلقي الأفكار المبدعة والمضامين المعرفيّة القيّمة"، وفي هذه المرحلة يأتي السؤال التالي: هل البنية الثقافية التحتية تكفي لكي تلهب أفكار المبدعين وتحثهم على نقل فكرهم على ورق؟ البنية الثقافية التحتية تتألف من مكتبات عامة حديثة، متاحف، دور نشر، استوديوهات السينما، النوادي والصالونات الثقافية، الحاضنات الابتكاريّة، الأروقة المعرفيّة.
المرحلة التالية لتلك تبدأ "بالمنتج"، وكلما كان متنوعا كأن يكون في الأدب والفلسفة والعلوم والمسرح والسينما والفن بأنواعه والنقد واللغة وغيرها، سواء على هيئة تأليف أم محاضرة أو ندوة أو سيناريو ولوحة أو غيرها من أشكال المنتج الثقافي، كان مؤشرًا على سلامة البيئة الثقافية التحتية للبلد.
ثمّ تأتي المرحلة الثالثة للدورة الثقافية تتمثل في "النشر"، إن كان كتابا، وإلا فمسرحيّة أو فيلما أو غيرها. وبالطبع، جهوزية البنية الثقافية التحتية بدور النشر، والمسارح، وأستوديوهات السينما، وشركات إنتاج الأفلام، يساعد كل ذلك على تحقق "النشر".
تعقبها مرحلة "العرض"، وينبغي هنا أن تكون قوانين المطبوعات والنشر والإنتاج السينمائي وغيرها مرنة ومعدة لجعل الثقافة تتحول إلى "عرض" وتكون متاحة "للاستهلاك". الحريات الفكرية لا بد وأن تكون مكفولة دون إفراط بالمكنونات الثقافية الأصيلة لكل أمّة والمتمثلة في مكتسباتها العقدية وآدابها الاجتماعية.
وأخيرا، تنتهي الدورة الثقافيّة بمرحلة "الاستهلاك". من الضرورة بمكان وجود البؤر التي تتيح وقوع المنتج المثقافي بين يدي المتعاطين له ومحبيه. فالمكتبات التجارية والمتاحف ومعارض الفنون التشكيلية ودور عرض النتاج السينمائي وغيرها، بغيابها، لن يتم "استهلاك" المنتج الثقافي، وهذا مضر بصناعته.
قبل عدة سنوات كتبتُ في هذه الجريدة الغراء مقالا بعنوان "المسافة بين مسقط وبيروت ليست بعيدة" جاء فيه لون باهت من الاستشراف المعرفي للمكنون الثقافي العماني وأنّه ماض في طريق الانتشار والبروز والتألق والإبداع، حينها لم يستطع البعض عن الامتناع عن "التهكم" الخفي، ولكنّ الأيام أبت إلا إثبات ذلك. كل يوم من أيام المعرض كان هنالك تدشين لكتاب أو كتابين عمانيين، ومعنى ذلك أنّ خُطة وطنية لتحويل الثقافة إلى صناعة بالمضي في تجهيز البُنى الثقافية العمانية بمتطلبات ذلك تبدو وكأنّها عن قريب ستكون ضرورة مُلحة.
mohammed@alroya.net