وظيفة شاغرة / خدمة إنسانية

 


هلال بن سالم الزيدي
وظيفةٌ أو وظائف شاغرة، تلك هي الكلمات التي يبحث عنها خريجو الكُليات والجامعات، أو أولئك الذين حصلوا على مؤهلات أقلَّ من المؤهل الجامعي، وهذا حق مشروع لكل فرد، وذلك لكثيرٍ من الاعتبارات التي تدفعهم للخوض في مُعترك العمل، في المُقابل تقوم الكثير من الجهات والمؤسسات بتقييم احتياجاتها من الكفاءات البشرية وترسيخ قيمها وأهدافها من أجل المُجتمع، إلا أنَّه ومع التغيرات التي تطرأ على الثقافة الاجتماعية (ثقافة محيط العمل) ابتعد العنصر المُهم في عملية البحث عن العمل ـ والإعلان عنه ـ  عن مساره الصحيح، حيث تولّدت الفكرة لدى البياض الأعظم من الأفراد والمؤسسات بأنَّ الوظيفة هي بذل جهد مُقابل أجر شهري أو أسبوعي كيفما كانت القوانين، ولذلك تحولت فكرة أو مشروع الحصول على وظيفة من مسارها الذي يُحقق الهدف الاجتماعي والإنساني إلى نوعٍ من الجباية المالية التي أصبحت ثقافة مجتمعية أي: يأتي المُقابل المادي في قائمة المطالب التي يضعها الباحث عن العمل وتضعها كذلك المؤسسة، وهذا مهم حتى تستقر المُجتمعات ويعيش الأفراد إلا أنَّ ذلك يجب أن يُربط بقيمة الأداء ونوعيته تجاه المجتمع.
إنَّ للمصطلحات دور في ترسيخ فكرة أو ثقافة أو سلوك على مر الأزمنة، لذلك فمن الخطورة بمكان أن يتحول هذا السلوك إلى إتكالية لا تُعطي العمل قيمته من حيث منفعة المُحيط منه، وبالتالي يؤثر هذا على وحدة المجتمع وتماسك لبناته، فينتج ما يسمى بعدم الرضا من الخدمات التي تُقدمها المؤسسات لجمهورها لأنَّ الموظف لديها لا يُفكر في رحلته اليومية إلا لتحقيق حضور يحظى من بعده بأجر شهري مُجزٍ وحوافز أخرى، ولعل هذا ما وُصِف حديثاً بالترهل التي تشهده الكثير من المؤسسات الخدمية.
إنّنا بحاجة إلى ثورة تغيير من أجل تسمية الأشياء بمُسمياتها لزرع وتنمية الحافز النفسي في قيم العمل، لأنَّ الكلمة كما أشرت سابقاً تتحول إلى سلوك يكوّن الثقافة المعرفية والعملية للإنسان، فتتحول من سُّمو معانيها إلى حضيضها في النتيجة، لذلك فالاشتغال على ترسيخ الكلمة الداعمة لتجويد العمل ضروري جداً في وقت أصبح الكل يتذمر من عدم وجود جودة وضعف في الإنتاجية، وهذا ما يؤثر بدوره على بناء الأجيال.
بداية ارتباط الفرد بالوظيفة يأتي عن طريق دعوة من قبل المؤسسة برغبتها في شغل وظائف شاغرة مع وضع الاشتراطات الشكلية، وغياب القيم الجوهرية للعمل، وهذا ما يدفعنا إلى ضرورة تغيير فلسفة نشر إعلان الوظائف، لذلك وبحسب الجوهر العام المفضي إلى خدمة المُجتمع، فإنني أقترح أن تتغير عبارة "وظيفة شاغرة" إلى "خدمة إنسانية" حتى ينعكس العمل الإنساني لدى المتنافس منذ بداية دخوله المُعترك، فتنمو لديه القيمة أو المصطلح، فتتحول إلى سلوك ذي صبغة إنتاجية عالية، وبالتالي يكون حديثه وعمله مركزًا على تقديم خدمة إنسانية، وهنا بالتأكيد تتكسر "الأنا" في ربط المنصب أو نوعية الوظيفة بالسلم الاجتماعي، من حيث عدّها وجاهة اجتماعية، فكلما كان منصبك عاليًا كلما ارتفعت قيمتك الاجتماعية، لأنّ الوظيفة بمنصبها البرَّاق تزرع سلوكاً لا إنسانياً، وبالتالي ستتسع الفجوة الطبقية في المجتمع.
إنَّ تغيير مفهوم الحصول على العمل من وظيفة شاغرة إلى خدمة اجتماعية إنسانية أصبح ضرورة مُلحة في واقع أهمل قيم العمل، وسادت الفوضى التنافسية التي تبنى على تصفية الحسابات في مُحيط العمل، لأنَّ الفكر الذي تأسس عليه ذلك "الفرد" هو فكر الصعود من أجل الخلود، دون أن ينتبه بأنّه "خادم للشعب"، فعاث بقراراته حسب ما تُمليه عليه الأهواء متسترًا تحت ستار القانون كما يدّعي الكثيرون، وعليه فإنَّ في هكذا مسار لا يكون الفرد أو الموظف مخلصاً في عمله لمُجتمعه ولخدمة الآخرين، وإنِّما مخلصا للبقاء في منصبه أو وظيفته من باب التمسك بالرافد المدرار حتى لا ينقطع عنه، فهنا الولاء شخصي محدود لمصلحة من يُحيط به ويبجله.
يقول الدكتور صالح الفهدي عن أهمية الإخلاص في العمل: "تظلُّ قيمةُ الإخلاصِ في العملِ محوراً تتحرّكُ على إثرهِ الكثيرُ من العناصرِ الأُخرى وترتكزُ عليه، وفي مُقدّمتها الإنتاجية والجودة. ولا معنى للعملِ إن لم يُصاحبهُ إخلاص، لأنّ الإخلاص روحُ العمل التي تمنحهُ القيمة الحقيقية" لذلك ومن وجهة نظري فإنَّ تغيير المُسميات يعد تكريساً للتغيير وبلوغ مرتبة الإخلاص.
فلو تغيرت الصيغ الإعلانية للوظائف الشاغرة مثلاً من:" تُعلن وزارة أو مؤسسة عن رغبتها في طرح الوظائف الشاغرة الآتية إلخ......" إلى "تعلن وزارة أو مؤسسة عن رغبتها في فتح باب الخدمة الإنسانية عبر نوافذ مُتعددة، فمن يجد في إنسانيته الكفاءة والقوة والأمانة إلخ...." هنا ترسيخ لقيم العمل منذ الوهلة الأولى.
همسة:
لو تحول الشعور اليومي لدى الموظف من حضور وانصراف ووظيفة إلى: ذهاب لتأدية خدمة إنسانية، لتغيرت الكثير من النفوس.


abuzaidi2007@hotmail.com