آفاق فكرية (3)

آفاق الحداثة وتطلعاتها

د. يحيى بن عيسى الريامي

خبير في شؤون الملكية الفكرية

مفكرو السوسيولوجيا (علم الاجتماع) التقليديون (توكفيل، ماكس فيبر، دوركهايم، وسيمل) وصف كلٌّ على طريقته، الحداثة بأنَّها: الفردانية، العقلنة، التخصص في الأنشطة، نزع الطابع الإنساني، التفكك الاجتماعي، اللا استقرار...، وتساؤلات أخرى إلى وقتنا الراهن تبقى أكثر حداثية. لقد عرفت مجتمعات الغرب الأوروبي خلال القرنين 16 و17 الميلاديين سلسلة من التحولات الاقتصادية والسياسية التي توجت بالثورة الصناعية في إنجلترا والثورة الفرنسية لسنة 1789، وبذلك ارتسم عالم جديد عالم يطبعه التصنيع وتقسيم العمل والتمدن وانبلاج عصر الدولة الوطنية وقيام ديموقراطية الجماهير وبموازاة ذلك ظهرت قيم جديدة، حيث أصبح العقل السيد الوحيد الذي يقبل الإنسان الخضوع لسيادته، وتمَّ تسجيل الحرية والمساواة كحقوق كونية في ميثاق حقوق الإنسان والمواطن فكانت مجمل هذه التحوّلات هي ما اعتدنا على تسميته بعصر الحداثة.

مفاهيم الحداثة

هُناك من تحدَّث عن حَداثة الديمقراطية في أثينا في التَّاريخ القديم، وهناك من قال بحداثة السفسطائيين (معلمو الحكمة) وماثلها بالفكر الأنواري (الظروف الاجتماعية والسياسية) الذي برز فيما بعد، وهناك من تحدث عن الحداثة بصفتها مرحلة فكرية مُتميزة ظهرت مع بروز الذاتية في القرن السادس عشر وامتدت إلى أواخر القرن التاسع عشر، ثم اختفت في الفترات المتأزمة، تلك التي عرفت فيها أوروبا تنامي حركات تُنادي بالعدمية وبالقومية العرقية، وأفضت في آخر المطاف إلى النازية وطفت الحداثة على سطح الفكر وتجلت على مستوى الواقع بعد الحرب العالمية الثانية.

 ماذا تعني الحداثة؟ التكنولوجيا، التصنيع، الآلية، المعرفة العلمية، الزمنية، المؤسسات، الديمقراطية، الحقوق السياسية والمدنية؟ عندما يُريد العرب توطين وتبيئة الحداثة ماذا يعنون بذلك؟ ألا يجب التفريق منذ البداية بين الحداثة والتحديث؟ إنّ مفهوم التحديث ظهر في الخمسينات، لما سعت المجتمعات الثالثية إلى نهج سياسات تنموية، ولذلك فالحداثة، كمفهوم عام تحيل إلى مفاهيم فرعية مُتعددة: الذات، العقل، التاريخ، السوق، الحقوق الديمقراطية، ويمكن القيام بتعريف أولي للحداثة: إنَّ الحداثة تعني الإيمان بقُدرة الإنسان بفضل عقله أن يوجه مسار التاريخ وتغيير بناء المُجتمع بغية تحقيق الديمقراطية وصيانة الحقوق والحُريات.

السؤال المطروح من سياق الحديث هو هل هناك حداثة واحدة، أم هناك حداثات مختلفة، متباينة أحياناً؟ على مستوى المفاهيم أولاً: العقل، الذات، الفرد، والحرية وغيرها من المفاهيم المؤسسة للحداثة التي لها معانٍ ودلالات مُختلفة عند الأدباء والفلاسفة، وعلى مستوى الواقع. ثانياً: يمكن بالفعل أو القيام - خلال حقبة زمنية معينة - بحداثات مُغايرة، حداثة تأسيسية (في القرنين السادس عشر والسابع عشر)، حداثة الأنوار، حداثة ما بعد الأنوار، حداثة القرن التاسع عشر، حداثة ما بعده في مطلع القرن العشرين، وهناك اختلاف كبير إن لم يكن تعارضا بين مستوى الفكر والقيم، ومستوى الواقع في نفس الظرفية وذات الحقبة التاريخية.

وعلى ذلك فإنَّ للحداثة أشكالا وصفات عدة :

-     حداثة المشاركة السياسية، ويقابلها الإقصاء والتمييز بين المواطن النشيط والمواطن السلبي، وبين المواطن المالك والمواطن غير المالك.

-     حداثة التعاقد السياسي يُقابلها التباعد والتفارق بين مركزية الدولة وطرفية المجتمع، فالفعل التعاقدي هو فعل مؤسس للدولة الحديثة وفعل مؤسس كذلك للمجتمع المدني، مما قد يحدث تناقضًا أساسيًا بين مساعي الدولة ومطامح المجتمع، وهما يحظيان بنفس الشرعية السياسية، وكيف لا يحسم هذا التناقض على حساب المجتمع والدولة تحتكر حق اللجوء إلى العنف الشرعي؟.

-     حداثة التقدم الاقتصادي، يقابلها الاغتراب والاستغلال والتفقير.

-     حداثة المجتمع المدني، يقابلها المفهوم التجريدي للدولة، ويرى ماركس أنّ الدولة "المجردة" المُتعالية على الطبقات الاجتماعية، تُعد من السمات المميزة للحداثة السياسية.

 وبالتالي فالحداثة في معانيها الإيجابية والمثالية تُحيل على الفكر والقيّم، وفي معانيها السلبية تحيل على الواقع المعيشي انفصام المجتمع بين فكر مستنير وعقلاني وديمقراطي وواقع استلابي إقصائي مأساوي، ولعل مفهوم الحداثة يحمل في ذاته بنية تناقضية وحركية ذات اتجاهات مُتعارضة.

المرجع أطروحة الدكتوراه (الملكية الفكرية والحماية القانونية للمعارف التقليدية الموروثة - التحديات والحلول )

[email protected]