واقع العولمة الاقتصادية على الملكية الفكرية في الدول العربية

د. يحيى الرِّيامي

رغم أنَّ ظاهرة العولمة طرقت مجالات متعددة، إلا أنَّ أهمَّ مَجَالاتها وأكثرها وضوحا وأبرزها هدفا هو المجال الاقتصادي. والعولمة هي بداية ظاهرة الإنتاج الرأسمالي، وأن ما يتضمنه مفهوم العولمة هو عولمة الإنتاج والتبادل والتحديث في ظل تنامي الابتكارات التكنولوجية والمنافسة بين القوى العظمى. وقد بَرَزت العولمة كمفهوم في البداية في مجال الاقتصاد.

وقد اعتُبر نتاجًا للثورة العلمية والتكنولوجية التي اعتبرت نقلة جديدة لتطور الرأسمالية العالمية. ومنذ ظهور الثورة الصناعية الأولى في إنجلترا في القرن الثامن عشر، وانتقالها لأوروبا، واستخدام البخار والكهرباء كطاقة، أدَّى هذا التحول والتطور إلى تغيير جذري في أسلوب عمليات القوى الإنتاجية وعلاقاتها، وكذلك إلى التطور والتوسع الاقتصادي السريع؛ وبالتالي أدَّت تلك العوامل للبحث عن موارد طبيعية لتمويل عملياتها الإنتاجية وفتح الأسواق العالمية لتسويق منتتجاتها الصناعية الإبداعية (براءات الاختراعات).

ونتيجة لهذه الظروف والتطوُّرات المتسارعة في مجال العمليات الاقتصادية، نجد أنَّ العولمة الاقتصادية تتَّسم بزيادة الاندماج بمفهوم السوق العالمية الواحدة أي تعتمد على مفهوم السوق، سوق بلا حدود من خلال إلغاء القيود على حركة رؤوس الأموال والبضائع، ولكن العولمة وعملياتها الاقتصادية العصرية ذات منافع محدودة بالنسبة للبلدان النامية، وبالذات البلدان العربية، والعولمة من وجهة نظر "الشعوب" في الدول العربية؛ هي: الهيمنة الأمريكية وسيطرتها على منافذ الأسواق العالمية وفرض الحضارة الغربية على الحضارة العربية الإسلامية؛ وبالتالي فهي شكل من أشكال الاستعمار الاقتصادي الغربي عامة، والأمريكي خاصة؛ والمتمثلة في سيطرة الشركات مُتعددة الجنسيات على أسواق العالم، وقد تظهر تجلياتها السلبية في العديد من الدول العربية. وتأثير العولمة بأبعادها المختلفة على مجالات العمل الاجتماعي الخيري العربي كثيرة وكبيرة فبعضها مباشر والبعض غير مباشر، وهناك آثار سلبية واضحة نجمت عن عملية تطبيق برامجها في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وقد تركت آثارها السلبية على الحياة الاجتماعية كالفقر والبطالة والتعليم.

وفيما يتعلَّق بتأثير حداثة تكنولوجيا المعلومات على واقع الملكية الفكرية العربي؛ فبالرغم مما كُتِب عن نشأة وتطوُّر العولمة في مُختلف الحقول المعرفية، إلا أنَّ العولمة تعتبر من المسائل المعقَّدة المتشابكة التي يَصْعُب معها الوصول بسهولة إلى أصل ثابت واضح ومراحل تطور محددة المعالم. ويمكن تصنيف ما ذكر حول أصول ونشأة وتطور العولمة إلى ثلاثة تيارات رئيسية؛ أولها: إنَّ نشأة العولمة اقترنت بالتطور التكنولوجي وثورة الاتصالات والمعلومات والثورة الصناعية والتجارية، إضافة إلى ارتباطها بظروف وأجواء وإفرازات انتهاء الحرب الباردة.

ويَرَى أصحابُ التيار الثاني أنَّ العولمة ليست نتاجاً تاريخيًّا طبيعيًّا آليًّا ومحتوماً للتقدم التكنولوجي الإبداعي الذي وَاكَب حياة البشرية قديماً وحديثاً، بل هي خيار سياسي لبديل معين من البدائل التنموية والمجتمعية والحضارية الممكنة، بمعنى أن العولمة هنا خيار سياسي وليست حتمية تاريخية، وأن حلول النظام الرأسمالي الليبرالي الجديد إنما هو قرار إرادي قابل للتعديل والتغيير، بل وللنقض إذا ما أخفق ذلك الخيار في تحقيق المهمة التي وجدت من أجلها العولمة. ويضيف أصحاب هذا التيار أنه حتى وإنْ كانت العولمة قد جاءت نتيجة لتطور تاريخي طبيعي، فهل يتطور التاريخ من تلقاء ذاته أم أنَّ هناك من يصنعه؟!

إنَّه مثلما تحكم الأقوياء في صُنع التاريخ الماضي بما فيه من تقدُّم علمي وتكنولوجي، فسادت ثقافتهم السياسية ومفاهيمهم الاقتصادية والأيديولوجية، ويتحكم الأقوياء اليوم بسيادة هذه القيم والأفكار والسلوكيات، ولكن الاختلاف هنا أن التاريخ كانت تصنعه دولة أو أكثر بنسب مختلفة حسب ما لدى كل من هذه الدول من قدرات ومؤسسات اقتصادية، وعسكرية وإعلامية وثقافية متنوعة، وليس العالم بأجمعه كما يُوحِي به مفهوم العولمة؛ وبالتالي فإنَّ العولمة هي ثمار تمدد الدولة القوية.

بَيْنَما عبَّر أصحابُ التيار الثالث عن رؤيتهم لنشأة وتطور العولمة بصورة تعكس مرونة وتفاؤلاً أكبر مما قدَّمه التياران السابقان؛ حيث اعتقدوا بأنَّ العولمة جاءت كنتيجة لسلسلة من التطورات التاريخية التي مرَّ بها النظام الرأسمالي؛ وبالتالي فهي ليست نتاجَ السنوات التي ازدهر فيها مفهوم العولمة وذاع وانتشر، وإنما يعود أصلها إلى بداية نمو المجتمعات القومية في القرن الخامس عشر، مروراً بمراحل مختلفة من التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية والتقنية والصناعية، وصولاً الى محاولات إدماج العالم الثالث في المجتمع العالمي وتصاعد الوعي الكوني، وتعميق قيم ما بعد المادية، ونهاية الحرب الباردة، وزيادة المؤسسات الكونية والحركات العالمية، وظهور حركات الحقوق المدنية، وانتهاء نظام الثنائية القطبية وزيادة الاهتمام بالمجتمع المدني العالمي المواطنة، وتدعيم نظام الإعلام الكوني.

وعلى ذلك، يمكن القول بأنَّ التأثيرات التي حدثتْ أو قد تَحْدُث بالنسبة للملكية الفكرية من حداثة الاتصالات والمعلومات وتطورها السريع، وكذلك تطور وسائل الإعلام بشتى أنواعها المقروءة والمسموعة والمرئية، ولا نعلم إن كانت هناك وسائل تقنية حديثة سوف تطرأ في الفضاء المعلوماتي والتي بدورها سوف تندمج مع الوسائل الأخرى لتكون رافدا قويًّا يُسهم في تطور أو تدهور الملكية الفكرية في الوطن العربي. كذلك يُمكننا أنْ نفنِّد الأسبابَ التي قد تؤثر على مستوى الملكية الفكرية وذلك في ثلاثة مستويات:

- الأول: سرعة تبادل مفردات عديدة في النظام الدولي؛ مثل: رؤوس الأموال الاستثمارية والسلع والبضائع والمعلومات بشتى أنواعها وأطيافها، وكذلك انتقال أو تبادل بين مستويات البشر ذاتهم.

- الثاني: بروز شبكات تفاعل عالمية، كالتفاعل ما بين المنظمات الحكومية وغير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني، والشركات متعددة الجنسيات.

- الثالث: ظهور ما يمكن تسميته نسبيًّا بالنظم العالمية؛ سواء كالنظام العالمي الجديد والنظام المالي العالمي ونظام الطاقة النووية العالمي والنظام الاقتصادي العالمي.

---------------------------

المرجع: أطروحة دكتوراة "الملكية الفكرية والحماية القانونية للمعارف التقليدية الموروثة.. التحديات والحلول".

[email protected]