عندما يتكلم التاريخ بذاته.. تجده في "شهد الذاكرة"

 

 

حمد العلوي

عندما صدر كتاب "جندي من مسكن" قبل سنتين تقريبا، لم أتمالك نفسي بالانتظار حتى أجد نسختي المجانية من المؤلف، فذهبت حالاً إلى مؤسسة "بيت الغشام للنشر والترجمة" وأخذت مجموعة من النسخ بقدر استطاعتي حملها إلى السيارة، وذلك قناعة مني أنني قد ظفرت بكنز ثمين، ولا أقول هذا لأن ليس من أحد سبق الفريق أول (م) سعيد بن راشد الكلباني في الحديث عن سيرته، ولكن هناك ميزة في هذه السيرة توخيتها في نفسي، لأنّ هذا الرجل الزاهد في الحديث عن نفسه، لن يسوق لها في ثنايا كتابه، وهو بذلك قد كسر حاجز الصمت الذي آثره لفترة طويلة، وهذا الحاجز الذي كُسر، سيكون بالقطع مؤثراً لدى الكثير من القادة العُمانيين، الذين واكبوا النهضة العُمانية، منذ البدايات الأولى لقيامها، وذلك على يد قائدها الفذ العظيم جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله وبارك لعُمان في عمره وصحته – وما فتئوا يترددون في سرد سيرتهم الذاتية الذهبية، فإن يفعلها رجل مُقدام عرف بالحكمة والتوازن والحذر، فذلك ضوء أبيض يشعله في طريق رجال التاريخ والعطاء العُماني، لكي يبدأوا بالبوح عن بعض من مكنونات صدورهم الثمينة.. فهلا فعلوا؟

لقد تعرّفت على الفريق أول/ سعيد بن راشد الكلباني وكان برتبة مقدم، وكنت "أنا" وقتها برتبة صف ضابط، وقد علمت بعضا من قصّة حياته في الوظيفة بالسؤال عنه، لأنه كان الأبرز بين الضباط العمانيين، لذلك أتيحت لي الفرصة أن أعرفه أكثر من معرفته لي، وهذه ليست تهمة للرجل كونه أحد قيادات الشرطة، ولم يصبح بعد قائداً عاماً لها، ولكن أعذره لوجود فواصل من الرتب بيننا، وعندما ترقيت إلى رتبة ضابط بعد سنوات، أتاح لي هذا الترقي فرصة لاختصار الكثير من تلك الفواصل التي كانت بيننا، رغم أنّها لم تقربني منه كثيراً، ولكن ملكاته القيادية التي وّجدت في شخصيته، جعلته الأقدر على تمييز بعض من الكل، فقد وقع اختياره على مجموعة من الضباط - وكنت من بينهم – لكي يدخلهم دورات تأهيل مكثف، فبدأت برامج التدريب لنا، وكان يحضرها شخصياً وقت المساء، لأنّ تلك البرامج المكثفة كانت تعقد صباح/ مساء، وكان يتخفّى تحت مقولة الحضور للاستفادة، والحقيقة كانت غير ذلك، وإنّما كان يريد أن يضع عينه على صف ثالث من القياديين، يؤهلهم للمستقبل القريب.

لقد وجد هذا الكتاب "شهد الذاكرة" شهرة كبيرة، وقد نفذت طبعتين منه لحد الآن، وإن كانت بآلاف النسخ، واليوم نقف أمام الطبعة الثالثة منه خلال فترة عامين، فهذا دليل على النجاح الكبير لهذا الكتاب، الذي قطعت يومين كاملين في قراءته أول مرة، فكلما انتهيت من فقرة شدتني الفقرة التالية، فوزعت ما اشتريت منه على مجموعة من أصدقائي، وكأنني أنا مؤلفه، وكلما صدرت طبعة جديدة، أعدت قراءتها مرة أخرى دون ملل، فهو لا يتكلم عن شخص "سعيد بن راشد الكلباني" الذي بدأ سيرته كجندي بلا أهداف معينة، سوى إرادته في استثمار الشحنة الوطنية في الدفاع عن الوطن، واستغلال رصيده المكتسب في التعامل بكفاءة مع البندقية، والرماية باحتراف التي رافقت نشأته القروية والحياة القبلية، ولم يكن أحداً من أهله تجاوز رتبة جندي حينذاك، حتى يكون مبعث حماسه في الرغبة على اللحاق به في الترقي والتدرج في الرتب.

إذن عندما يسرد المؤلف قصة جندي من مسكن، إنما يسرد قصة إنسان عُماني، تخضّب فكره بالوطنية منذ الطفولة، لذلك أتي هذا الكتاب بواقعية وصدقية وعفوية محضة، بحيث يشعر من يقرأه، كأنّه يقرأ شيئا من سيرته الذاتية هو، أو كأنه تأريخ عُماني يرويه الزمن من نفسه عن نفسه، فالمؤلف سرده دون أن ينسب خصوصية فردية له، إلا ما لازم شخصيته من التعبير عن سلوك خاص به، أمّا في العموم فهو مجرد وقائع تأريخية، تتحدث بذاتها عن ذاتها كما سبق وقلت، فمن يعرف المؤلف عن قرب، فهو يعلم أنه لم يبح إلا بمقدار الشهد من العسل، أي الصفوة المصطفاة والمنتقاة بحرص الحريص، وإن مرجان محيطه الكبير لم يبح به بعد، ولآلئ بحوره العميقة لن تظهر على السطح، إذن الذي أظهره في كتابه القيم هذا، وهو من المشتركات العامة، وهناك خصوصيات كثيرة، ستظل في مندوس الذاكرة المحمية، تلك هي عقيدة الفريق أول (م) سعيد الكلباني.

لقد غطى كتاب "شهد الذاكرة" ثلاث مراحل من تاريخ الإنسان العُماني المخضرم، الذي عاش زمن ما قبل النهضة، ثم زمن النهضة الحديثة، فليس غريباً إذا عرَّفنا ما قبل النهضة بـ " زمن العصور الوسطى" لكوني أحد الذين عاشوا ردحا من تلك الفترة، فلن أكون مبالغاً في هذا الوصف، وإذا قدَّر الله لي واستطعت أن أكتب عن سيرتي الذاتية، سترون كيف كان الكلباني أفضل مني حظاً ومعيشة في قريته يوم ذاك، وكان في عهده يستخدمون "عود الثقاب" في إشعال النار ففي ذلك نوع من الترف، أما نحن في قريتنا، ما زلنا نستخدم "المقدحة والصلبوخ" لذلك لا نتعجل في إطفاء النار في بيتنا، وإذا حدث وانطفئت دون إرادتنا، ذهبنا لجلب قبس من بيت الجيران، إذن كتاب جندي من مسكن أو شهد الذاكرة، تحدث عن ثلاث مراحل، المرحلة الأولى: هي تكوين الإنسان العُماني من خلال القرية والسبلة العُمانية، وهذه هي المرحلة الأهم في حياته، حيث ينشأ فترة الطفولة والصبى على مجموعة من القيم والعادات، المطلية بالأدب والكرم والشهامة ونجدة الملهوف، وإيثار الغير على الذات، وهذه القيم كانت خير زاد له في مواجهة قسوة الحياة في طبيعة بلا رفاهية، لذلك جعلت له من كل صعب سهل في مسيرة الحياة اللاحقة.

أما المرحلة الثانية: فهي مرحلة التكوّين على رأس العمل، لتنفيذ مهام صعبة ولكنها مشرفة، إذن فالجندي القادم من بلدة مسكن، لم يجد مشقة في حياة الجندية، وهو يعلم بحجم مخاطرها، فهي بين حياة تسر الوطن، أو ممات سبقه غيظ العدو، إذن هو قَبِل بهذه المعادلة، وعاش غمارها واقعاً حياً، فلولا الإصابة الخطيرة في المعركة لعاد بعد التشافي إلى الجبهة من جديد دون تردد، وقد شهد بأم عينه كيف استشهد زملاء له، ولكن الشهادة كانت حافزاً له، وليس جزعاً وخوفاً من سوء المآل، إذن هذه مرحلة ارتكزت على قيم المرحلة الأولى في نجاحها، وإيجابيّاتها الوطنية في عقيدتها الراسخة، وقد شاءت الأقدار، أن ينتقل من جندي مقاتل، إلى شرطي يحمل ميزان الحق والعدل، فإذا كانت معادلة الجندية تحتم عليه الاتصاف بالشجاعة والإقدام، فإنّ الصفة الشُرطية تحتم عليه أيضاً التحلي بالشجاعة، والثبات على الحق في إمضاء القانون، فهذه المعارف والممارسات صقلت شخصيته القيادية.

حتى إذا أتت المرحلة الثالثة: وهي مرحلة القيادة، يوم أصبح مؤهلاً ليكون قائداً عاماً للشرطة تحت مسمى "المفتش العام للشرطة والجمارك" وهذه وإن كانت المرحلة الأخطر في حياته، لكنها أتت إليه وهو يرتكز على المرحلتين السابقتين، فكانتا مفعمتين بالخبرة التراكمية، وبناء الشخصية بالعلوم والمعارف اللازمة لهذه المهمة، وهذا عمل مُبدع لم يسبقه إليه سابق من أبناء جلدته في مثل هذه المهمة الكبيرة، حتى يُحاكيه ويتعلم منه فن القيادة، إذن فهو خاض غمار الجندية بدافع وطني محض، وهنا أتاه التكليف السامي لأنه كان مؤهلا للمهمة، التي لم تنحصر في القيادة، وتسيير العمل القائم، وإنما ليخوض معركة التعمين، والتغير في القيادة والإدارة، التي كانت أجنبية محضة، وقد نجح بشهادة الجميع وتعاونهم معه.

إن الذين قرأوا الكتاب "شهد الذاكرة" شدتهم فترة الطفولة والصبا التي عاشها المؤلف، وقد يكون بسبب قسوتها، ولأنّ الله رحمهم بأن سلموا منها، ولكن الكتاب كان كله عِبر ومواعظ في الحياة، وقد ركّز المؤلف في الجزء الأخير على فن القيادة، وذلك من حيث التخطيط والتأهيل، لإعداد جيل قادر على العطاء بأقل الأخطاء، وفي نفس الوقت لانتقاء الكفاءات المبدعة من بينهم، لقيادة المؤسسة لاحقاً، ومثل هذا العمل لا ينتهجه إلا المخلصون، وتجنبت استخدام كلمة "لا يجيده" فهناك من يجيد هذا، ولكن لا يريد حتى يخلد هو في الوظيفة - للأسف الشديد - إذن الفريق أول (م) سعيد بن راشد الكلباني أسس مدرسة في فن القيادة على رأس العمل، وتواضعاً منه أسمى هذا الفن القيادي بـ " تأهيل الموجهين أو الإداريين" والتأهيل القيادي أكثر شمولية، لأنّه لا يغفل الجوانب الإنسانية في العمل، وحل المعضلات حتى الشخصية منها، في حين الأمور الإدارية تقوم على إنفاذ العمل وفق القانون وحسب، وهنا يتضح الفارق بين الاعتناء بالإنسان الذي هو محور كل إنجاز، والاهتمام بإنفاذ القانون حتى ولو أضرّ بالإنسان.