اقرأ


حميد السعيدي

لا يأتي تقدّم الأمم والحضارات إلا بسواعد أبنائها الأوفياء، الذي لا يدخرون وقتا إلا قدموه لأجل وطنهم من أجل تحقيق رفعته ومكانته بين الأمم، ويشهد العالم تسابقا سريعا في اقتصاد المعرفة في الابتكارات العلمية والتقنية والصناعية، فلا غرابة في ما نشهده من تقدم ملحوظ في مختلف المجالات، هذه النتاجات التي لا تتحقق من خلال الأحلام، وإنما هي نظير جهود كبيرة بذلت للوصول لهذه المستوى من الإنتاج في مختلف المجالات، فعالم اليوم هو عالم اقتصادي بحت، ولكن أين نحن من هذه العالم؟ وماذا نحتاج للوصول إليه؟
القراءة وحدها هي التي نحتاج إليها اليوم، والتي تساعدنا على التغيير نحو الأفضل، هذا التغير الذي لا يتعلق فقط ببناء المعرفة، وإنما ببناء العقول، تلك العقول التي نرغب أن تصبح قادرة على إدارة التغيير في حياة الفرد بما ينعكس إيجابا على حياة الآخرين، وبما يؤثر بفكره نحو الإبداع والابتكار، فالقراءة هي بوابة المستقبل التي تفتح للمتعلم مصادر للمعرفة، وتكسبه المهارات التفكيرية العليا، وتغرس فيه القيم والاتجاهات الإيجابية، وتبني عقله بما يساعده على الابتكار والإبداع، هذه البوابة التي تفتح آفاقا جديدة للمتعلم ليتعرف على المعرفة في كافة المجالات والعلوم والأدب، لذا تعتبر القراءة من أهم أولويات المجتمعات المتقدمة التي تسعى إلى الاهتمام بها، وغرس قيمة حبها وقراءتها في أبنائها.
ولو رجعنا وتأملنا المنهج الإسلامي لوجدنا فيها الطريق الصحيح لبناء العلماء والمفكرين،  فقد جاء بنظرة تعليمية تعتمد على إثراء الفكر وتنطلق من "اقرأ" أول آية قرآنية نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وتحثه على القراءة، هذا النهج الرباني أتى لاحقا بمجموعة من الآيات القرآنية التي تدعو الإنسان للتعلم والتأمل في خلق الله، ويقول الله عز وجل في كتابه العزيز " قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" سورة يونس (101)، وفي سورة آل عمران "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ"(190)، وجاءت مكانة العلماء عند الله في قوله قال الله تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) سورة فاطر، هذا النهج لو رجعنا وتأملنا معانيه وتفسيراته لوجدنا أنّه يركّز على منهجية التعلم البنائية التي توجه الفرد نحو القراءة والاطلاع، وتدفعه نحو التأمل والتفكير في الحياه بما تضمه من كون واسع، وما يحدث فيه من ظواهر ومشكلات ومواقف محيرة تحتاج للدراسة والبحث فيها، هذه القراءة التي وجهت المسلم في بداية تأسيس الدولة الإسلامية مما أثمر عن ظهور حضارة متقدمة في كافة المجالات، وما زالت منتجاتها العلمية والأدبية تدرس في الجامعات العالمية، وهذا تأكيد على أهمية القراءة ودورها في بزوغ المفكرين والعلماء.
اليوم نحن بحاجة إلى تحرك وطني واجتماعي نحو بناء مجتمع تعليمي قارئ، لجميع فئات المجتمع فنحن بحاجة إلى بناء ثقافة القراءة، بحيث يتخلّق لدينا مجتمع قارئ وواع لكل متطلبات الحياة، ويمتلك من المعرفة ما تؤهله للريادة، بحيث تصبح القراءة عادة في المدرسة، والمسجد، والنادي، والبيت، وجمعيات المجتمع المدني، والمكتبات، والمراكز الثقافية، جميع هذه المؤسسات يفترض أن تتبنى مشروعا هادفا نحو القراءة يعتمد على تنظيم العديد من الفعاليات والاحتفاليات والمسابقات والندوات بحيث يتكون لدنيا مجتمع فاعل ومؤثر للنشء، والعمل على تحفيز القارئ وتغيير الكثير من القناعات والاتجاهات تجاه القراءة، فكلما كان العقل باحثا عن المعرفة وواعيا لما حوله؛ كلما كان أكثر مقدرة على العطاء والإنتاج الفكري والعلمي، بما يساعد على تحقيق العديد من المنتجات الفكرية والعلمية والأدبية.  
يجب أن نتمكن من استغلال الانفجار المعرفي خاصة بما يتميز به طفل اليوم من معارف متنوعة نتيجة للعديد من العوامل المرتبطة بتواصله مع مصادر متعددة من المعرفة، والتي أسهمت بدرجة كبيرة في أحداث انتقال معرفي لهؤلاء الطلبة بطريقة غير مباشرة،  فأصبح على معرفة ودراية بالعديد من المعارف والمعلومات التي ترسخت في أذهانهم في مختلف جوانب الحياة، حيث أسهم التطور التقني بكافة أشكاله.
إننا بحاجة إلى بناء العقول القادرة على التعامل بإيجابية مع هذه المعرفة، والابتعاد عن العقول الجامدة التي لا تنتج فكراً ولا إبداعاً، حيث تستطيع أن توجد لذاتها مكانة قادرة على خلق الابتكار وإدارة التغير نحو الأفضل، وهذا الأمر يحتاج إلى جهود كبيرة نابعة أولاً من القراءة، فالإنسان هو المورد البشري الحقيقي الذي يقوم بالدور الرئيسي في بناء الاقتصاد الوطني، فالعقول المبتكرة هي التي تتحكم اليوم في تفوق الاقتصاد العالمي، خاصة في مجال التقنية والمعرفة الحديثة، فظهور مسميات حديثة كالانفجار المعرفي، والاقتصاد المعرفي، والعولمة، والحداثة، والأجهزة الذكية، تمثل الركائز الأساسية التي تعطي الدول التي تمتلكها النصيب الأكبر من الدخل العالمي، وغايتنا في تحقيق ذلك مرتبط بدرجة كبيرة بمدى مقدرتنا على البحث عن المعرفة والاطلاع والقراءة.

Hm.alsaidi@gmail.com