عُمان.. أيقونة السلام

حاتم الطائي

تترسَّخ أقدام عُمان يومًا بعد آخر على الساحة الدبلوماسية الدولية كقلعة سلامٍ شامخة، ومَنْبَعٍ لرسائل وِئَام تَجْمَع الشَّتات وتجسِّر الفجوات وتُصلح ذات البَيْن، بمواقف تُبلور مفاهيم الوسطية والاعتدال والتعايش، تنبُع من عُمق جذور وقيم متأصِّلة في التاريخ العريق ولا تزال تتجسَّد معانيها حتى اليوم؛ ليظل مَعِيْن الحكمة فيَّاضًا بالخير العميم، تصبُّ أفلاجه في صالح الجميع، تأسِّياً بنطق سام لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -أبقاه الله- بأنَّ "بناء الثقة بين الشعوب، وتأكيد أواصر الصداقة مع الدول، والعمل على تحقيق المصالح المشتركة، ومراعاة الشرعية الدولية، والالتزام بالمعاهدات والقوانين، من شأنه أن يؤدي إلى مزيدٍ من التفاهم الواعي، والتعاون البنَّاء، من أجل انتصار الأمن والسلام، وشيوع الطمأنينة والرخاء".

إنَّ استكناه أبعاد الحكمة في سياستنا الخارجية لا تَسَعْه سطور، بقدر ما تستوعبه ذهنيات تستقرئ ما وراء الأحداث؛ فمنذ أيام حطَّت طائرة الرئيس الإيراني على أرض مسقط العامرة، في زيارة رَسْمية أطلقتْ شارة بَدْء جُهود الوساطة والإصلاح لعلاقات مُتأزمة ومتوترة بين دول مجلس التعاون وطهران، بخلفياتها المعقَّدة، التي رأى رُوحاني معها أنَّ الحكمةَ العُمانية هي المفتاح وجواز العبور نحو شرق أوسط مُتماسك، يشدُّ عضد بعضه بعضًا، ويُمهد الطريق أمام امتلاكنا زمام قرارات حلحة القضايا الملتهبة التي تُشعل المنطقة بأسرها؛ لاسيما في سوريا واليمن والعراق...وغيرها.

رُوحاني لم يكن الوحيد خلال الأسبوع الماضي الذي آمن برسالة السلام التي تخطُّها عُمان بحكمة قابوسها القائد؛ فأنطونيو غوتيريش الأمين العام الجديد للأمم المتحدة، لم يرتضِ أن يستهلَّ زيارته للمنطقة سوى من مسقط الخير، ليستلهم من روحنا التواقة للسلام شيفرة طلاسم المشهد الراهن في زواياه المختلفة؛ وهو ما أشار إليه صراحة بأنَّ عُمان يتحلَّى شعبها بالقيادة في جلب السلم إلى المنطقة، وأنَّها دائماً تتصدَّر الوساطة للجمع بين أطراف النزاع، مُحاوِلِةً التأكيد على أنَّ السلام مُمكن؛ من خلال التزامها بمواقف واضحة وموضوعية ونهجٍ عقلاني في تناول الأمور. كما أنه من المترقب أن تحطُّ على أرض السلطنة غدًا طائرة أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح؛ تلبية لدعوة مولانا حضرة صاحب الجلالة؛ ضمن الجهود والمساعي المشتركة لإحلال السلام.

ويَتَمَاس مع تجليات مشهدية الحِكْمَة، مَنْح مَوْلانا حضرة صاحب الجلالة، مؤخرًا، جائزة الإنسان العربى الدولية للعام 2016، من المركز العربي الأوروبى لحقوق الإنسان والقانون؛ تقديرا لجهوده العظيمة، وإسهاماته النبيلة فى مجال حماية ودعم وتعزيز حقوق الإنسان محليًّا وعربيًّا ودوليًّا؛ بناءً على أسس ومرتكزات تقوم على الإيمان بالسلام والعمل من أجل تحقيقه، وبناء أفضل العلاقات الممكنة مع الأشقاء والأصدقاء، في إطارٍ من الاحترام المتبادل وحسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والتعاون بحُسن نية لما فيه خير ومصالح الدول والشعوب.

إنَّ عُمان بفضل دبلوماسيتها الهادئة الرزينة، استطاعتْ أنْ تظلَّ دائمًا أيقونة سلام حقيقية، ومَوْضع التقاء كلِّ الأطراف، ومحطَّ ثقة الجميع، في كلِّ الأوقات ومختلف الظروف؛ ولم يكن مُصادفة على أي نحو أنْ تنمو وتتَّسع علاقاتها الخارجية بامتداد العالم، وأن تحظى بالتقدير من جانب المنظمات الإقليمية والدولية، التي شهدت لها في محافل عدَّة بأنَّ الجهود العُمانية لم تكن ذات يوم لتحقيق مصالح ذاتية، أو بناء علاقات على حساب أطراف أخرى، بل للحفاظ على السلام والأمن والاستقرار في المنطقة.

إنَّها مُعَادلة التوازن والاتزان -على ما بَيْن المصطلحيْن من خلاف جوهري- إذ وفي الوقت الذي سخَّرت فيه قيادتنا الحكيمة وحكومتنا الرشيدة رؤاها وجهودها لبناء ركائز دولة فتيَّة، تقوم على استثمار طاقات العُمانيين وضمان مشاركتهم في صياغة وبناء التنمية الداخلية، لتحقيق الأولويات الوطنية، والحفاظ على المكتسبات النهضوية؛ اقتَضَت فلسفة الحكمة عَمَلًا جادًا ومُخْلِصًا بالمثل لأجل تحقيق السلام والأمن والاستقرار خارجيًّا؛ بدءًا من محيطنا الخليجي، وتكاملاً مع إقليمنا العربي، وصولا إلى العالم أجمع؛ وهذا جَوْهَر سياستنا الخارجية، والركيزة التي انطلقت منها مواقفنا ورؤيتنا وتعاملاتنا مع مُختلف التطوُّرات، بكل وضوح وشفافية؛ سواء على المستوى الثنائي، أو الجماعي، أو متعدد الأطراف.

ويبقى القول في الأخير، أنَّ نهج الحكمة والنفوس المحبة للسلام هو جزء أصيل من الهوية العُمانية؛ صحيح أنَّ الجميع يحفظ قول النبي الكريم: "لَوْ أَنَّ أَهْلَ عُمَانَ أَتَيْتَ مَا سَبُّوكَ وَلَا ضَرَبُوكَ"، إلا أنَّ كثيرًا لم يتمَّعقوا في المعنى الجميل الذي فسَّره القرطبي بـ"أن أهل عُمان قوم فيهم علم، وعفاف، وتثبُّت، وهم أليْن قلوباً، وأرق أفئدة"، كأساسٍ يُميز سجيتنا وملامح هُويتنا. آمنتْ عَلى هَدْيِه السلطنة بالتفاوض والحلول السياسية ونبذ الحروب، فاكتسبت اليوم صَدَاقة العالم أجمع؛ بفضل سياسة الحياد الإيجابي، ضمن مبدأ التعايش وتبادل المصالح التي تخدم مصالح الشعوب.