القابضون على جمر النشر

زينب الغريبيَّة

في نهاية هذا الأسبوع، سوف يَبْدأ معرض مسقط الدولي للكتاب، هذا المعرض الذي كُنت أذهب إليه كزائرة في السنوات السابقة، ومنذ العام الماضي أصبحت أرتاده كصاحبة دار نشر عُمانية تعمل على مشروع ثقافي وطني واعد، يحملُ شعارًا عميقًا جدًّا "لنصنع عُمان مُفكِّرة"، هذا الشعار الذي آمنتُ به، لذا سخَّرت كل إمكاناتي لترجمته من خلال مساعدة المؤلفين الشباب والكُتَّاب المبتدئين على نشر إنتاجهم؛ فلديهم كتابات تستحق أن تُنْشَر ويستفيد منها كثيرون، وتمنحهم دافع الاستمرارية، وحين قرَّرت أنْ أعمل على هذا المشروع لامني الكثيرون، فهم يعتقدون أنَّه مشروع تجاري اقتصادي، ومن يعملون في النشر يدفعون أكثر مما يستردون؛ فالمجتمع من وجهة نظرهم لا يقرأ، وسوق المعرفة ضعيف جدًّا إذا ما قورن بسوق الكماليات والغذاء، والعمل منهك جدًّا لأنَّ البنية اللوجستية للنشر غير متوفرة في البلد، وإنْ توفَّرت فهي باهظة الثمن، تكتنفها كثير من العقبات، والمؤسسات الرسمية في هذه الوقت قلصَّت من موازناتها لشراء الكتب، لكنني قرَّرت أن أمضي رغم كل شيء، استحضرت إرادة لا يمكن لأي أحد غيري أن يعيها، وقلت إما النجاح والبقاء والثبات أو البقاء والثبات؛ فلا خيار للفشل أو التراجع.

رحلة سنة واحدة هي عُمر دار النشر التي أديرها، كانت حافلة، والدليل على ذلك هو ما سوف أقدمه خلال هذا المعرض، الذي أحمل له ولعُمان أسماء عُمانية جديدة أتوقَّع أنْ يكون لها مكانة بارزة في المستقبل، مؤلفين ومؤلفات آمنتُ بقدراتهم، وعملتُ مع فريقي على تقديم خبرة نشر مميزة لا يمكن أن تُنْسَى، وهناك آخرون من ذوي المكانة الأكاديمية من عُمان وخارجها اختاروا دار الورَّاق لنشر كُتبهم العلمية، وهناك غيرهم من الأطفال والشباب الذين من حقهم أن نفتح لهم الأبواب لكي يُبدعوا؛ فالمشكلة دائما تكون في التجربة الأولى، وبعد ذلك يستطيع أن يمضي الإنسان إلى مشاريع علمية أخرى.

تُشارك الدار هذا العام بعدد كبير من الإصدارات الجديدة، تصل إلى خمسين إصدارا، إضافة إلى إصدارات معرض العام الماضي والفترة التي كانت بعده، لقد جعلت فلسفة الدار تقوم على صناعة الكتاب والمؤلف بدلا من طباعته، ولتحقيق ذلك تطلَّب الأمر أولاً بناء إمكاناتي الداخلية الفنية والمادية والتي اعتمدتُ فيها على نفسي دون أنْ أرهنها لأي عقبات أو دعم، لأنني لم أؤسِّس هذه الدار من أجل أن تعمل وفق العوامل الخارجية، وإلا سأقف بعد أول شهر؛ لذا مَضَى التجديف من أجل بناء الإمكانات التي -ولله الحمد- جعلتني خلال عام أقف على أرضية صلبة، قادرة على أن أقدم للمؤلفين أفضل خدمة تقوم على الشفافية والمصداقية وتوظيف التكنولوجيا وتوفير الدعم والتقييم، والترويج للكتب من خلال مختلف الشبكات التي أصبح لها منذ النصف الثاني من العام موظفة متخصصة، وأيضا نشر الكتاب في مختلف الولايات؛ حيث نغطي حتى الآن اثنتي عشرة ولاية عُمانية، ناهيك عن تحفيز المعرفة من خلال برنامج متسع للمسؤولية المعرفية تقوم على دعم لبرامج مختلفة للأطفال والباحثين والجماعات الأدبية الشابة والمجموعات القرائية...وغيرها.

وضعتُ معايير أداء عالية للإنجاز، وحرية للمؤلفين في المشاركة في عملية إنتاج كتبهم، واحترمت رغباتهم حتى وإن كانت أحيانا تتعارض مع بعض الجوانب التي تمثل ثوابت لسياسة الدار، وعملتُ على تغيير بعض مُعتقداتهم الخاطئة عن دور النشر، وخبراتهم السابقة معها، لا أريد لدار الورَّاق أن تكون نسخة سيئة من دور أخرى إن وجدت، بل أريد لها أن تكون نموذجا عُمانيا مشرفاً، يحظى بمصداقية كبيرة، ولا أريد لها أن تكون واجهة طباعية بل مؤسسة تحفز الحراك المعرفي في البلد، ولا أريد أن نغلق أفقنا الفكري ضد أي فكر إلا إن تعارض مع سياسة الدار التي ترفض نشر كتابات تسيء إلى الدين أو الأخلاق أو الدول والجماعات، لا نرفض شيئا، ولكننا لا ننشر كل شيء يصل، ويُطلب من الذين تحتاج أعمالهم إلى صقل القيام بذلك في ضوء ملاحظات تقدمها لجان الدار التخصصية.

نحن في دار الورَّاق نفضِّل الصمت، وندع المهمة لعملنا وإنجازنا لكي يتحدثا عنا، ومنذ العام الماضي ورغم تعدد الأنشطة والإصدارات طوال العام، وما لدينا سوف نقوله في معرض مسقط هذا العام، وهو ليس كل ما نود قوله لأن لدينا الكثير من الأنشطة التي نقترب من بلورة مفهوم جديدة لها في إطار مسؤولية أطلق عليها "المسؤولية المعرفية"، وسوف نعمل على ترسيخ جذور لهذا المفهوم على التربة العُمانية، والدار هي دار لكل العُمانيين سواء كانوا مؤلفين أو قراء، نحن حين نجدِّف في الزمن الصعب ندرك أن التجديف يتطلب الإيمان بالأهداف، ولا ينقصنا الإيمان، كما لا تعوزنا الإرادة، مُصمِّمون على التجديف، وبدون الإرادة لا يمكن أن يتحقق أي شيء، لا تنسوا أن تكونوا متابعين لحساباتنا وفعالياتنا ومفاجآتنا خلال المعرض؛ لأننا نُعدُّ لكم رحلة معرفية متفردة هذا العام.