د. سَيْف المعمري
قَبْل أنْ أمْضِي كلَّ صباح إلى عملي، أحرصُ على تجنُّب كل الوجوه التي قد أراها في طريقي حتى أصل، لا أستحضر إلا ما عليَّ إنجازه في ذلك اليوم، حتى وإنْ ذَهَب يومي بأكمله في ذلك، لا يعنيني ما أراه من تقاعُس في ذلك، ولا يعيني إنْ كانت هناك عدالة وظيفية أم لا، ولا يعنيني إن وجدت البعض من الذين لا يعملون يُوْضَعون في دوائر صُنع القرار؛ فتبعث بعض المؤسسات رسالة مثبطة جدا للذين لا يوجد بداخلهم دافعية للعمل من أجل وطنهم، ونجد أنفسنا في مؤسسات لا يقاتل فيها المسؤولون ولا الموظفون لتكون متميزة، لتقدِّم نموذجا مُختلفا عن بقية المؤسسات، ولتحرك المياه الراكدة للعمل من أجل البناء ولا شيء غيره، لا نجد ذلك التفكير في البدائل للعمل في ظل الظروف المتقلبة، ولا تلك الملكة القيادية لاستنهاض الطاقات حتى في ظل محدودية الموارد، وتقليص الموازنات، ولكن ما الذي نتوقعه من الذين لم ينجحوا في تقديم مؤسسات متميزة في أدائها في ظل وجود الموارد الكبيرة؟! كيف نرغب منهم قيادة مؤسسات للإبداع والتميز في ظل محدودية الموارد؟! لقد أصبح المبرِّر اليوم جاهزا لركود كثير من المؤسسات، وهو لا توجد لدينا موارد، وموازناتنا محدودة، ويردِّدون: ما الذي يمكن أن نفعله حتى نتمكن من استنهاض موظفينا وطاقاتنا؟! وهنا تكمُن الإشكالية التي لابد أن نتوقف عندها ألا وهي تعزيز المواطنة، وهي أهم رأس مال وطني بعد أن وجدنا أنفسنا أمام تحدي طويل المدى مع محدودية رأس المال المادي، والسؤالان الذان لم يُطْرَحا في هذا المرحلة على قدر كبير من الأهمية؛ وهما: ما المبررات التي تتطلب منَّا فتح ملف المواطنة ومتطلباتها للنقاش الآن؟ والسؤال الآخر هو: كيف يُمكن أن نعزز المواطنة كمخزون وطني نواجه به هذه التحديات والتقلبات؟
وفيما يتعلق بالسؤال الأول، يُمكن القول بأنْ لا نجاح يمكن أن يتحقق من التركيز فقط على توفير الأموال دون بناء قيم التعامل مع هذه الأموال، وهذا التعامل تحكمه دائما قيم المواطنة التي يجب أن تُرسَّخ وتُوْضَع كمعايير للإنجاز والمحاسبة. وبعبارة أخرى، يمكنني القول بأن المواطنة هي الصخرة التي يجب أن تتحطم عليها كافة الأنانيات والمحسوبيات والهدر في الأموال العامة، وهي الغاية التي توجه وفقها كافة الخطط الإستراتيجية في مختلف القطاعات، وأكثر ما يقلقني في هذه المرحلة التي نسعى فيها للثبات الاقتصادي هو أن نغض الطرف عن العديد من المظاهر التي تشير إلى ضعف في القيم في مختلف القطاعات، وظهور الأنا الفردية وعرقلتها لكثير من جوانب النهوض المؤسساتي والتطوير الإداري، التي نحتاج إليها في هذا الوقت من أجل بناء مؤسسات قوية ومنتجة، ونحتاج إلى كوادرنا الوطنية المهدورة للقيام بعمليات التطوير، نحتاج إليهم لأنهم المورد الوطني الذي لابد أن تزال من أمامهم كل العراقيل حتى يعطي ما عنده، فهذه هي مهمة متخذي القرار في تعبيد الأرض ليسير عليها هؤلاء؛ لأنَّ الوطن يحتاج لخبراتهم وإخلاصهم، وكفاءتهم، بذلك نقدم نماذج حية أننا تغيرنا وأن الوطن هو الأهم بالنسبة لنا، وأن الذين يطالبون اليوم الشباب بأن يضحوا ويجسدوا قيم المواطنة، هم الذين يقدمون المثال والنموذج حيث يفسحون المجال بإرادتهم للجيل الشاب للعمل على تنمية بلده في هذه المرحلة، لا أن ينادوا بذلك في وقت يضعون أكثر من سياج حول الأماكن التي يوجدون فيها بدون إنتاج حتى لا يصل إليها الشباب الذين يملكون الفكر المتغير والمبادرة والقدرة على قراءة الواقع وما يحتاجه، فهل هناك أحد لديه استعداد ليضع ثقته في الشباب الذين يوجدون في المؤسسة التي يديرها؟ وهل هناك من لديه استعداد ليتنحى من مكانه لكي يفسح لفكر جديد يعمل على النهوض بالمؤسسة؟ الأسئلة التي يمكن أن تُطرح في هذا المقام كثيرة، وبدون الاستعداد لتقديم النموذج والمثال الحي لقيم المواطنة لن نحصد النجاحات التي نتوقعها، وما نراه من تعلق بالرمزيات الوطنية لا يكفي لأن الأوطان تحتاج إلى منتج وعمل ومثابرة وتحدٍّ، وهذا هو الشيء الصعب علينا أن نبحث عن النماذج ونقدمها في مختلف وسائل الإعلام المختلفة.
أمَّا السؤال الثاني: كيف نعزز المواطنة كمورد ومخزون وطني؟! فهذا الذي عُقدت حوله كثير من النقاشات والحوارات خلال السنوات الست الماضية، وأشعر أننا بدل من أن نقترب من الهدف ابتعدنا عنه كثيراً، بل عمقنا الفجوة بين المؤسسات والمواطنة، وأقمنا حواجز وسدودا بين المسؤولين والموظفين والمواطنين، وفي ظل تلك الفجوة نمت ظواهر كثيرة وتفاقمت، وتعززت الشلل الوظيفية، وتعمَّقت حالة اللامبالاة، ففقدنا الكثير من قوة ذلك المورد، ولكن لم يفت الأوان لكي نعيد التأمل فيما يجري من ممارسات على أرض الواقع، ونصحح المسارات؛ لأننا بدون تعزيز قيم المواطنة لا يمكن أن نصبح مجتمعا قوياً قادرا على تحويل التحديات إلى فرص، مجتمعا قادرا على تمكين أفراده واستثمار طاقاتهم، لذا أرى أن المؤسسات التعليمية لابد أن تعي الغاية الرئيسية لها، وتعيد الاهتمام ببناء المواطنة عند طلابها، بطريقة منهجية تحفز بداخلهم الانتماء القائم على الفعل، هذا الهدف المستثنى من برامج التعليم المختلفة، ولا أعرف كيف نركز على سد احتياجات سوق العمل، ولا نركز على سد احتياجات الوطن من المواطنين المسؤولين والواعين والمتحفزين لخدمته والعمل على النهوض به.
علينا أنْ لا نخسر شبابنا، وأنْ لا نجعل وطنهم يخسر عقولهم النابغة، علينا أن لا نسلمهم للبطالة في احتفاليات كبرى، هؤلاء الشباب هم المورد الوطني الضائع الذي سنتحسف عليه يوماً ما إن لم نعيد النظر في كل ما يتعلمون، ونذكي شعلة الحماس فيهم في المدارس والجامعات، وأن نفتح للنابغين منهم الأبواب، ونقدم لهم الامتيازات ونضعهم في أماكن التغيير، وحتى في سنغافورة المتقدمة نجد أن في كل عام يتنازل حوالي 5% من الثلث المتميز تعليما وكفاءة من السكان عن البقاء؛ من أجل مطاردة واقع أفضل عمليا ووظيفيا، ومن أجل تجنب واقع وجود أجانب يقلون مهارة عنهم يشغلون وظائف يستطيعون هم أن يشغلوها بجدارة واستحقاق.
... إنَّ العملَ على تعزيز المواطنة هو أفضل السبل لكسر حصار قلة الموارد، إننا قادرون بالعمل الجاد والمثابرة على بناء مستقبل أفضل لكن مع تهيئة الفرصة، وبناء القيم المتصالحة لا الاستمرار على قيم المراتب الاجتماعية، علينا أن نبحث عن أصحاب المواهب والمهارات ونمكِّنهم لينجزوا من أجل عُمان لا أن نجعل إنجازهم سببا لمضايقتهم، وعلينا أن نتبادل خبرات النجاح لا أن نحتكرها، فتعزيز ثقافات محتكرة لا يخلق أوطانا قوية.