آفاق فكرية (1)

د. يحيى الريامي

خبير في شؤون الملكية الفكرية

 

أضْحَى من الواضح أنَّ مُعظم التحوُّلات الاقتصادية والسياسية والعلمية والثقافية المذهلة والمتسارعة التي يشهدها العالم، هي إمَّا سبب من أسباب العولمة، أو إنها مجرد نتيجة من نتائجها الضخمة والعميقة. ولقد كانتْ حركة دمج العالم موجودة باستمرار، وعبر كل العصور التاريخية، بَيْد أنَّ هذه الحركة أخذتْ تتسارع خلال التسعينيات بشكل خاص، مُستمدِّة صورتها من الثورة العلمية والتكنولوجيا الراهنة والتطورات المدهشة في وسائل الاتصالات والمعلومات التي تقود الطريق إلى المستقبل، والعالم الآن يعيش لحظة بدايات العولمة ولا يزال يتعرف على مقدماتها، ولكن لا يعرف على الإطلاق إلى أين تتجه العولمة! وما هي نهاياتها!! وهناك محاولات فكرية عديدة لفهم طبيعة التحولات والتغيرات في جميع الاتجاهات والمجالات واستيعاب هذا العالم الجديد وفهم سماته الأساسية ومساراته المستقبلية.

 

من جانب آخر، العولمة أساساً هي مفهوم اقتصادي قبل أن تكون مفهوماً علميًّا أو سياسيًّا أو ثقافيًّا أو اجتماعيًّا، وأيضا مظاهر وكليات العولمة الاقتصادية هي الأكثر تكاملا وتحققاً على أرض الواقع من العولمات الأخرى. فالعولمة الاقتصادية مفادها أنَّ الأسواق التجارية والمالية والعالمية أصبحت موحدة وخارجة عن نطاق كل دول العالم، وتنتقل السلع والخدمات ورأس المال على النظام العالمي بلا حدود، بمعنى انتقال الثقل الاقتصادي العالمي من الوطني إلى العالمي ومن الدولة إلى الشركات والمؤسسات والتكتلات الاقتصادية؛ مما أدى لبروز منظمة التجارة العالمية والشركات ذات النشاط الفكري الإبداعي. ومن وجه آخر، يُمكن أن يقال إنَّ هدفَ العولمة الاقتصادية هو تحويل العالم إلى عالم مهتم بالاقتصاد أكثر من اهتمامه بأي أمر آخر في حياته بما في ذلك الأخلاق والقيّم الإنسانية التي تتراجع تدريجيًّا.

ويُعرِّف البعض العولمة بأنها التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والسلوك، دون اعتدادٍ يُذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة أو انتماء لوطن محدد أو لدولة معينة ودون حاجة لإجراءات حكومية، وعرفت العولمة بأنها اندماج كبير في النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية بين الأسواق والشعوب والأمم والدول والتكنولوجيا، كما نظر إليها البعضُ الآخر على أنها نظام عالمي أو نسق ذو أبعاد تتجاوز دائرة الاقتصاد، يشمل مجال المال والتسويق والمبادلات والاتصال كما يشمل مجال السياسة والفكر والأيديولوجيا.

التاريخ الزمني للملكية الفكرية في جوهر العولمة:

1- المرحلة الجنينية: الممتدة منذ بدايات القرن الخامس عشر الميلادي حتى منتصف القرن الثامن عشر، وهي المرحلة التي شهدت أوروبا فيها نمو المجتمعات القومية.

 2- مرحلة النشوء: تبدأ من منتصف القرن الثامن عشر حتى عام 1870.. وهي المرحلة التي أخذ مفهوم الدول يتضح أكثر ويأخذ له مكاناً إقليميًّا محدداً حيث تستطيع إبرام الاتفاقيات الدولية؛ وذلك من خلال مؤسسات خاصة بتنظيم العلاقات بين الدول.

3- مرحلة الانطلاق: التي بدأت منذ عام 1870 حتى العقد العشرين من القرن العشرين.. إذ أصبحت العلاقات بين الدول تقوم على فكرة الصراع والتنافس.

4- الصراع من أجل الهيمنة: وهي المرحلة التي بدأت بشائرها منذ العقد العشرين حتى منتصف الستين من القرن (الحالي).. والتي شهدت صراعات وخلافات فكرية؛ مما أدى إلى ظهور العديد من الفلسفات المتباينة والمتنوعة تدور حول القضايا الإنسانية خاصة بعد الحربين العالميتين لا سيما واقعة إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما/اليابان.

5- المرحلة الأخيرة التي بدأت منذ العقد الستين إلى وقتنا الحالي.. والتي شهدت أحداثاً كثيرة؛ أهمها: إدراج العالم الثالث في المجتمع العالمي ونهاية الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وازدياد المؤسسات والشركات الدولية والعالمية.

والسؤال الذي يطرح في الواقع العالمي الآن؛ هو: من يتولى فرض العولمة؟ هل هي القوى المسيطرة اقتصاديًّا، وسياسيًّا وتقنيًّا وعسكريًّا، أو ثقافيًّا على العالم؟ هل هي دول التقدُّم الغربي الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية؟ إنَّ المتطلع إلى واقع دول العالم اليوم لابد أن يجيب بنعم، بل ويضيف تحديداً إن الولايات المتحدة هي التي تفرض العولمة حتى على العالم المتقدِّم باعتبارها تتبوأ مركز الصدارة والقيادة وتمتلك القوى الأكبر، إذن السيطرة الأكبر آليات فرض العولمة والملكية الفكرية، إن بُعد العولمة الاقتصادية تلك المتعلقة بتحرير ورفع القيود أمام حركة التجارة الدولية، وربط أجزاء العالم من كافة زواياه، إضافة إلى تقريب المسافات من خلال تقنية الاتصالات وثورة المعلومات، وذلك من خلال إحدى اتفاقيات منظمة التجارة العالم وهي الاتفاقية الخاصة المتعلقة بالتجارة وحقوق الملكية الفكرية والمعروفة اختصارا تريبس (TRIPS)؛ حيث يُعتبر موضوع الملكية الفكرية وحماية الحقوق المتعلقة بها في التجارة الدولية من المواضيع المعقدة جدًّا؛ سواء ما يتعلق منها بالمفاوضات الدولية للوصول لاتفاقية دولية بشأنها، أو ما يتعلق بصياغة ومواءمة التشريعات الوطنية ذات الصلة، والأكثر تعقيداً هو وضع تلك التشريعات موضع التنفيذ لتتلاءم مع متطلبات لاتفاقيات الدولية.

وتعتبر العولمة من أهم الظواهر التي جاءت لتفرض نفسها وتلقي بثقلها على المجتمع الدولي في سياق تطور ما بعد الحرب الباردة ضمن منظومة المفاهيم الغربية التي أخذت بالانتشار بعد انهيار المعسكر الاشتراكي والنظام الثنائي القطبية؛ والتي من أهمها: مفاهيم النظام العالمي الجديد والأحادية القطبية المهيمنة ونهاية التاريخ وصراع الحضارات. وقد أخذت العولمة كظاهرة متعددة الجوانب والأبعاد سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وإعلاميًّا منذ بداية ظهورها على أرض الواقع تستحوذ على اهتمام الدول والمنظمات الدولية والهيئات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية والشركات المختلفة؛ لما كان لها من تأثير كبير على مختلف جوانب الحياة الإنسانية، خاصة وأنها جعلت المجتمعات والدول تواجه تحديات وتغيرات هيكلية متسارعة في البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إنَّ جوهر العولمة هو تعميم النظام الرأسمالي على كل أرجاء المعمورة، مع تعرُّضه لعمليات تقدير شملت بنيته وأسلوب إدارته...وغير ذلك من جوانبه وعناصر تشغيله، استناداً للثورات التكنولوجية التي شهدها العالم وبوجه خاص ثورة المعلوماتية والاتصالات، وبجوار التقدم التكنولوجي الذي يعتبر أحد الأركان المهمة للعولمة، هناك جانب ذاتي محدد لها، وهو الجانب العقدي أو العقائدي، وقد برز هذا الجانب بوضوح إبان انفراط عقد المجموعة الاشتراكية، فقد جَرَى الترويج لمقولات مثل نهاية التاريخ والانتصار النهائي للرأسمالية، وهي مقولات أيديولوجية بالأساس، وهكذا أصبحت العولمة تقدم كعقيدة تدعو للأخذ بالرأسمالية كنظام اجتماعي لا بديل له ولا مفر منه.

[email protected]

------------------------------------

* المرجع: أطروحة الدكتوراة "الملكية الفكرية والحماية القانونية للمعارف التقليدية الموروثة.. التحديات والحلول".