لا أزالُ أتذكر قبل أكثر من عشرين عاماً عندما تمَّ فرض رسوم قدرها ريال ومائتا بيسة على المواطن عند فتح ملف العلاج بأيِّ مركز صحي أو مستشفى حكومي، ومائتا بيسة بعد فتح الملف عند كل زيارة للمُستشفى لأجل العلاج، وقد كُنت يومها طالبًا بالمدرسة، وقد أثار هذه القرار استياءً بالغًا لدى المُواطنين لعُدة أسباب، وهو وإن كان مبلغاً زهيداً بشكل عام إلا أنّه يُشكل رقماً عاليًا لا يُستهان به عندما ننظر إلى عدد المُعالجين على مدار الساعة في كافة أنحاء السلطنة، وعليه فإنَّ هذه الرسوم البسيطة أصبحت تشكل دخلاً كبيراً يعتمد عليه في توفير جزء من مصاريف العلاج الطائلة.
اعتاد المواطن هذا الأمر، وتقبَّله فيما بعد، وربما أصبح لا يعنيه الأمر في إبقاء هذه الرسوم من إلغائها، ولعله نسي ما أحدثه حينها من ضجَّة، ولكن مما لم أنسه ولا أزال أتذكره قول أحد المسؤولين في ذلك الوقت إنّ هذه الرسوم الغرض الأساسي منها الحد من ظاهرة العلاج لغير داعٍ ولا ضرورة ونشر ثقافة العلاج وقت الحاجة. وآثار ذلك التصريح اندهاشي رغم صغر سني؛ متسائلاً في نفسي: هل يُعقل أن يذهب أحد إلى المُستشفى من غير ضرورة قاطعاً المسافات ومنتظرًا الساعات ومعطلاً أعماله بحجة العلاج المجاني؟! وهل ستمنع 200 بيسة المريض من العلاج بالمستشفى؟! ألا يبذل المرء الغالي والنَّفيس من أجل العلاج عندما تلم به الآلام والأسقام؟! بل حتى أولئك الذين يرغبون في نيل إجازات مرضية وهم غير مرضى فهل نتوقع أن تمنعهم 200 بيسة من سلوك هذا الدرب؟!
هذا القول يتشابه تقريبًا مع تصريح أحد المسؤولين بأنّ رفع الدعم عن الوقود يسهم في تغيير السلوك الاستهلاكي للمواطن.
إنَّ مثل هذه التصريحات تؤكد بكل وضوح أنَّ الأزمة الحقيقية لا تكمن في الموارد، وإنما في الطاقات البشرية المؤتمنة عليها، والعقول التي تُديرها وتُحسن استغلالها، فكم من دولة شحيحة الموارد وعرة التضاريس ذات كثافة سكانية عالية أصبحت تضاهي الأمم في تقدمها ورخاء شعوبها بحكم العقول المُدبرة والأفكار النَّيرة والتنمية البشرية الحقيقية التي انتهجتها تلك الدول، وكم من دول غنية بالموارد زاخرة بالثروات تُعاني شعوبها من طريقة إدارة المسؤولين لها.
سيعتاد المواطن رفع الدعم عن الوقود وهو يتحمّل اليوم أوزار تأخر سياسات التنويع الاقتصادي وتقاعس البعض عن أدائه المهام المنوطة به، وتأخر تسليم المشروعات. لكن لا ينبغي أن يكون المواطن البسيط هو من يتحمل تبعات ما مضى، ويتعين على الحكومة أن تضع الآليات التي تحمي هذا المواطن وتوفير الدعم اللازم للفئات المستحقة.
وإذا كان المواطن بحكم حبه البالغ لوطنه، وحبه للصبر والتَّضحيات، أصبح ظهره صلبا وعوده قوياً لتحمل تحديات الحياة التي ألقيت على كاهله والتي تزداد يومًا بعد يوم، فإنه يتحتم على بعض المسؤولين أن يراعوا ذلك المواطن عند إطلاق التصريحات، عليهم أن يختاروا كلماتهم بعناية ليتفادوا الفهم الخاطئ لدى من يتربص ويريد أن يؤجج الموقف.
والسؤال المطروح الآن: من يحتاج إلى تغيير السلوك الاستهلاكي (الكلامي) وترشيد الإنفاق (الحديث الذي لا طائل منه)، المواطن البسيط أم بعض المسؤولين؟!
لا يختلف اثنان على معرفة الجواب، ولا خلاف لدينا كذلك في أنَّ الأعوام الماضية افتقدت في كثير من النواحي إلى من ينجز الأعمال دون تأخير، وأن يضع في الحسبان الأجيال القادمة ومستقبلها، ومن يصون الثروات ويثمرها..
ما نضيفه في هذا المقام أنَّ المواطن إن لم يحسن ترشيد ثروته فهو مسؤول عنها وحده ويتحمل تبعاته بنفسه، ولكن عندما لا يحسن بعض المسؤولين ترشيد الإنفاق وصيانة المال العام فمن سيكون الخاسر هنا؟!
لا خلاف بأنَّ هناك أزمات اقتصادية عالمية مرتبطة بعوامل وتحولات لا علاقة لها بأوضاعنا المحلية، وأن التحديات الراهنة في كثير منها نتيجة تداعيات لأزمات اقتصادية تضرب العالم من شرق إلى غربه، حتى الدول ذات الثروات الهائلة، تئن تحت وطأة هذه الأزمة.
إنّ أيّ فرد في المجتمع يمكنه تقبل النُّصح والتوجيه في شأن ترشيد نفقاته وتغيير سلوكه الاستهلاكي نحو الأفضل، ففي النهاية جميعنا بشر عرضة للخطأ والزلل وهو ما نلمسه في واقع كثير من النَّاس، لكن هذه النصحية وهذا التوجيه يجب أن يأتي ممن هم قادرون على الحديث العام، وخوض غمار الجدل المجتمعي بكل تداعياته، وقبل كل شيء أن يكون هذا التوجيه وتلك النصائح نابعة من حرص حقيقي على المصلحة العامة، وأن تكون خالية من أي نبرة استعلاء أو تعال على البسطاء، أو تشعر الآخر أنه قليل الحيلة لا يستطيع تدبر أمره بنفسه.
إنَّ الحاجة ماسة والضرورة مُلحة لأن يكون لنا نهج مُتقدم في شأن تدريب المسؤولين على فن انتقاء الكلمات وسياسة القول الطيب وحسن الخطاب ومواجهة الجماهير، وبقدر ما يتم تدريبهم وتهيئتهم لمواجهة الجماهير يتم محاسبتهم على أيّ زلل أو خطأ في حق الشعوب أو الأمانة التي أوكلت إليهم... والله المستعان.
عيسى بن علي الرواحي
issa808@moe.om