في الرد على أدونيس.. لغة العرب لن تموت

 

 

 

د. يحيى أبوزكريا

علَّل الكاتبُ السويديُّ الرائع وليام موبيري، الذي كتب أروع ما يفتخر به الأدب السويدي اليوم، انتحاره الذي أقدم عليه فعليًّا برمي نفسه إلى النهر وقضائه غرقا، بأنَّه قرَّر وضع حدٍّ لحياته لأنَّه لم يتمكَّن من الإبداع، وقد قرن حياته بالقدرة على الإبداع، فما دام قد أصيب بالجفاف الإبداعي فعلام يستمر في الحياة! يحدث هذا في السويد، أما في عالمنا العربي فعندما يصاب الكاتب العربي بالجفاف وينضب معينه الفكري ومخزونه اللغوي، فإنه يتهم اللغة العربية -التي قال عنها لويس ماسينيون كل اللغات العالمية جمالها ظاهري عدا العربية التي تجمع بين جمال الظاهر والباطن- بأنها لغة ميتة والأجدى رميها وراءنا دهريا.

والمفارقة أن كاتبا كأدونيس والذي اشتهر بدون مقومات أدبية أو فكرية، بل لمع اسمه بين مجموعة الحداثيين في بيروت في ستينيات القرن الماضي بامتياز، كتب بعضَ ما كتب باللغة العربية، صحيح أن أدونيس لم يلامس مطلقا روح اللغة العربية ولا غاص في تركيبة لغتنا الجميلة ليستكشف جمالها الذي تخصصت كليات غربية في تدريسها، لكنه كان يكتب بهذه اللغة العربية التي أعطته أهم فضاء إبداعي، ولو كتب أدونيس باللغة الفرنسية أو الإنجليزية لما نال ما ناله حتى الآن من شهرة مصطنعة بطبيعة الحال، والفرق بين أدونيس ومالك حداد الكاتب الجزائري المبدع الذي كان يكتب باللغة الفرنسية فرق شاسع، فمالك حداد اعتزل الكتابة باللغة الفرنسية والكتابة بشكل كامل حتى لا يخون اللغة العربية، التي كان يرى فيها الوعاء الحضاري الحقيقي الذي يجب أن ينصهر فيه إبداعه والتي يجب أن يصيغ بها أفكاره ورؤاه.

ومثل أدونيس كمثل بعض الكتاب المغاربيين والمشرقيين الذين يكتبون بلغة فولتير، لا ليعبروا إلى فضاءات أرحب، بل ليحصلوا على الجوائز واعترافات المؤسسات الثقافية الغربية، التي تقرن جوائزها بضرورة التخلي عن الانتماء والمنطلق؛ فالمدخل إلى هذه الجوائز الدولية هو أن تسب حضارتك، كما حدث مع سلمان رشدي وتسليمة نسرين وآسيا جبار ورشيد بوجدرة...وغيرهم.

وبالعودة إلى أدونيس الذي أعلن عن وفاة اللغة العربية فيما أعلن نزار قباني عن وفاة العرب، فهل تنصله من اللغة العربية يعود لخلل فيه أو لخلل فيها!

مبدئيًّا قد لا يسع المجال للحديث عن اللغة العربية وجمالها واستيعابها المطلق لكل منجزات العصر ومستجدات الصناعة وغير ذلك، وكباحث لغوي أقول إنَّ تركيبة اللغة العربية تفوق تركيبة معظم اللغات العالمية التي تجاوبت مع المستجدات الحضارية كاللغة الأردية والسويدية والفنلندية والفارسية ناهيك عن الإنجليزية والفرنسية، ثم إنْ ضَعْف أمة ومرضها لا يعني مطلقا أن لغتها سقيمة، وبناءً عليه فالخلل والموات ليس في لغتنا العربية الجميلة والمتألقة، والتي أساء إليها بنوها، بل في أدونيس الذي ماتت قدرته على الإبداع، وجف معينه ونضبت بئره، ولم يعد يكرِّر غير بضع الكلمات التي باتت عنوانا له في ستينيات القرن الماضي.

وبدل أنْ يكون موقفه كموقف موبيري السويدي، فقد اختار التهجم على اللغة العربية التي تلى على روحها سورة الفاتحة، ولأنه لا يقرأ الفاتحة فقد كرع على جثمانها قنينة ويسكي مُصاغ في بلاد العم سام. لكن فلنفرض جدلا -كما يقول علماء المنطق- أنَّ اللغة العربية ماتت -وهذا زعم دونه خرق القتاد، وهيهات أن تموت لغة تمنح الحياة، لغة هي ينبوع الوجود- فما هو بديل أدونيس!!

هل البديل سيكون في اللهجات العربية كاللهجة الجزائرية والعراقية واللبنانية والسعودية والفلسطينية والمصرية.

وكل اللهجات العربية في نفس المستوى طبعا، وهل يمكن للهجات العربية الخليطة والتي تجمع بين اللفظ العربي والفرنسي والإنجليزي وغيره أن تكون بديلا، وكم يستغرق سكان الجزائر من وقت ليفهموا اللهجة السورية أو اللبنانية، وكم يحتاج سكان السعودية من وقت لفهم لهجات البدو في بلاد الطاسيلي، فبديل كهذا هو أقرب إلى الانتحار منه إلى الإنجاز الحضاري.

وإذا بطل هذا -بتعبير علماء الأصول- فهل يكون البديل اللغات الغربية؟! وما جدوى اعتدادنا بأنفسنا وحضارتنا ساعتئذٍ، أيحقُّ للفرنسيين أن يذودوا عن لغة فولتير، ولا يحق لي أن أذود عن لغتي وحضارتي.

وخلاصة القول أنَّ الذي مات فعليا وانتهى إبداعيا وعجز عن تقديم أي شيء جديد هو النخب العربية التي طعنت لغة العرب، فبدلًا من أنْ يرمي هؤلاء أنفسهم بالعقم الفكري والكساح الثقافي، رموا اللغة العربية التي أنتجت للعالم جميعا روائع قل نظيرها.