د. سيف المعمري
ما أراه في ما يجري أننا نمر بمرحلة ضغط كبيرة من قبل طرفي علاقة المواطنة، الحكومة التي تحمل اليوم مسؤولية التباطؤ الكبير في تنويع الاقتصاد والترشيد في إنفاق الثروات الوطنية، وعدم الاستعداد لمواجهة أزمة محتملة كهذه الأزمة، ويعاني المواطنون أيضا من الضغط نفسه حيث يجدون أنفسهم يواجهون ارتفاعا وغلاءً في مختلف الخدمات رغم تباين دخولهم وإمكاناتهم، وإلى محدودية فرص العمل، وإلى ركود في كثير من جوانب الحياة الاجتماعية التي تتأثر دائما بأي ظروف اقتصادية، والأسئلة التي لابد من طرحها في ظل هذه الفترة: ما الذي يمكن أن ينجز تحت الضغط لمواجهة هذه التحديات الكبرى والمصيرية؟ ما الذي يمكن أن ينجز وقنوات الحوار محدودة جدا بين الطرفين؟ ما الذي يمكن أن ينجز في ظل ضعف الثقة؟
إننا بحاجة إلى تحليل العوامل التي تقود إلى هذا الضغط المتنامي بين الطرفين، وإلى الوقوف عندها بدلاً من تصوير طرف للآخر على أنه "لا يفهم" وبالتالي هو سبب لكل ما يجري بسبب سوء الفهم، ولذا لابد أن نتوقف عند سوء الفهم، ونعمل على أن يفهم الجميع باعتبارهم مواطنين ناضجين لابد أن يطلعوا على ما تقوم به الحكومة من أجلهم، ومن أجل قيادة هذا البلد وتعزيز مكانته، كما يجد أن تبتعد بعض الطروحات عن تصوير الآراء المختلفة التي يولدها هذا الضغط عند بعض المواطنين بأنّها آراء غير وطنية، فذلك يفتح الباب على مصراعيه في التشكيك في عقيدة مهمة جدا وهي "العقيدة الوطنية"، هذه العقيدة التي تتعرض اليوم لامتحان صعب جدا، وخير وقت يتم فيه الكشف عن نقاء هذه العقيدة وثباتها هو وقت الأزمات التي تكشف عن بعض الزيف الذي يلف هذه العقيدة.
وأهم العوامل التي تقود إلى تنامي هذا الضغط هو ضعف قنوات الحوار بين الحكومة والمواطنين، وفي ظل غياب هذا الحوار تًرك المواطنون عرضة لتحليلات وإشاعات وتأويلات تقوم بها جماعات عدة في شبكات التواصل بشكل يومي لها مصالحها الخاصة، ورغم أنّ المشكلة تتحرك في عالم واقعي إلا أنّ المواطنين حين لم يجدوا المسؤولين يخاطبونهم على الأرض، انتقلوا إلى التفاعل في العالم الافتراضي وتركوا المشكلة تتدحرج وتتفاقم، وزاد من حدة ذلك الوضع قيام مؤسسات الإعلام الفاعلة بتضييع الحقائق وتسطيح ما يجري للناس من أجل إرضاء الحكومة والحفاظ على تدفق بعض الدعم منها، وبالتالي جعلها ذلك تتجنب المواضيع الملحة للإصلاح في مختلف القطاعات، ولذا في ظل هذا الوضع نحن نخسر الوقت الذي يمكن أن نعيد فيه تعزيز العقيدة الوطنية، واستنهاض الطاقات الوطنية كسلاح لمواجهة هذه التحديات، وهذا الوضع لا يقود إلى تعزيز حالة عدم الثقة والإحباط والتشكيك في كل شيء، ويزيد من حالة الضغط على كلا الطرفين، وبالتالي تضيع فرصة إعادة بناء مجتمع بدون "نفط".
إنّ المطلوب من الحكومة في هذا العام هو النزول إلى الأرض وليس محاصرة الإنفاق فقط، لأن الوجود يعبر عن نهج أم محاصرة الإنفاق فهو مجرد إجراء لعلاج إشكالية كبيرة، والإجراءات لا يمكن أن تكون سليمة وفعالة بدون متابعة لمختلف تداعياتها، وكذلك فتح قنوات الحوار مع مختلف بنى المجتمع ومؤسساته، وتحرك المسؤولين في الالتقاء بموظفيهم وبالمواطنين، وقيامهم بزيادة فاعلية مؤسساتهم، وسد أي أبواب للهدر غير المبرر، وإعادة توطين الكفاءات الوطنية وإحلالها في أي مكان كان ذلك ممكناً، والبدء في إرساء ثقافة الإنتاج بدلا من تعزيز صناعة البطالة المدفوعة، وكذلك البدء في وضع معايير الإنجاز السنوية لكل مؤسسة، لا يعقل أن تعمل كل مؤسسة على تقييم موظفيها لكن لا يوجد من يقيم هذه المؤسسات على ما أنجزت، حكومة تتخذ قرارات ذكية في وقت أقصر، لا يمكن أن نبعث برسالة للمواطنين عن فاعلية الحكومة وهم لا يرونها إلا في الاجتماعات والمكاتب المغلقة، إن لم تنتقل الحكومة إلى تعزيز كفاءاتها في وقت مثل هذا الوقت، فمتى سوف تفعل ذلك؟
والمطلوب من المواطنين في هذه المرحلة أن يكونوا مسؤولين، وأول نطاق التعبير عن هذه المسؤولية هو الأسرة التي لابد أن تعيد النظر في وظائف أفرادها، لا يمكن المضي في إعداد جيل مستهلك وغير منتج، كما أن إعادة رسم خطة الاستهلاك باتت عملية لا غنى عنها، هذا فضلا عن الابتكار في عملية التآزر الاجتماعي وكيفية استثمار الأموال والتبرعات والجهود الاجتماعية في تلبية متطلبات فئات المجتمع الضعيفة بدلا من صرفها في نواح ليست ذات أولوية كما يلاحظ الآن، لابد أن يفهم المواطنون أنهم أقوياء ببعضهم البعض، ضعفاء بدون ذلك التعاون والتآزر، وذلك ما تقوم به جماعات وافدة اليوم تعيش بيننا لا تتعامل إلا مع أفرادها من أجل ضمان دوران رأس المال بين أفرادها، وبالتالي إن لم نبنِ وعيا بذلك فإننا نخسر كثيرا، لابد أن يكون المواطن يقظاً لكل ما يجري من حوله في المؤسسات والمدارس والسوق والمستشفيات وغيرها ويقوم بدوره بإيصال ملاحظاته وتوضيح الثغرات التي يجدها وتؤثر على حياته، وعلى المؤسسات الإعلامية أن تساعد المواطن على ذلك من خلال نشر أو إذاعة بعض تلك الأشياء التي يعبر عنها، وأن تتحرك المؤسسات المعنية لعلاج ذلك بدلا من التحول إلى دور المحامي.
"حكومة فاعلة ومواطن مسؤول"، هو الشعار الذي لابد أن نرفعه في هذه المرحلة ونعمل على تحقيقه إن أردنا صناعة المرحلة القادمة على أسس متينة، بدون حكومة فعالة لا يمكن أن يتغير شيء، الحكومة ليست بأعدادها ومؤسساتها ومبانيها إنما بفعاليتها وإنجازها وابتكارها ومرونتها في التعامل مع الظروف والتحولات، وبدون وجود مواطن مسؤول يضع وطنه أولاً وأخيرا، لا يمكن أن يستقر أي وطن أو يتقدم، المواطنون بوعيهم ويقظتهم وإخلاصهم ودافعيتهم هم الذين يصنعون وطنا متقدما قويا يعبر عن أحلامهم له، وكما يطالب المواطنون الحكومة أن تكون مسؤولة لابد أن يكونوا هم أيضا مسؤولين، المعادلات الناقصة لا تقود إلى رقم صحيح.