علي بن كفيتان
عرَّف البعض المجتمع المحلي بأنه الناس الذين يعيشون في وسط جغرافي معيَّن لفترة طويلة نسبيًّا، ويمارسون أنشطة اقتصادية تكون موادها الأولية من نتاج تلك الرقعة الجغرافية التي يستوطنونها؛ مما يعني أنها توفر لهم الماء والمأوى والغذاء والهواء النقي والبيئة الجمالية الخالية من أي ملوثات؛ مما يمكنهم من العيش بكرامة.
إلا أنَّ احتياجات التنمية غير المدروسة بشكل مستدام تحدث أضرارا جسيمة على حياة تلك المجتمعات؛ فتمنح مساحات كانوا يعتمدون عليها اقتصاديا في حياتهم اليومية سواء كانت جزءًا من اليابسة أو البحر، وتقوم تلك المؤسسات سواء عامة أو خاصة بالاستيلاء على الأرض بموجب القانون. ويتم تعويض كل من لديهم منشآت أو إشغالات قائمة على الأرض دون النظر للحقوق الأخرى لبقية أفراد المجتمع المحلي؛ مما يُولِّد شعورًا بعدم الرضى لديهم ويعبرون عن سخطهم باستمرار في ظل عدم وجود التزام واضح من تلك المؤسسات لتوفير فرص عمل بديلة، أو آفاق شراكة حقيقية مع المجتمع المحلي، وهذا ما يُعمِّق الهُوة بين الطرفين.
في البداية، نعرف الحقوق التي يكتسبها أي مجتمع في منطقة معينة، ولكي نقرب الصورة، فإنَّ المجتمع الذي يعتمد على الصيد الحرفي مثلاً يكون اهتمامه الأول الحفاظ على مصدر رزقه وهو البحر، وعندما تحل إحدى الشركات ضيفا تستحوذ على المرفأ الصغير لذلك المجتمع، وتقيم منشآت كبيرة على الساحل، وتعمل على تصريف المخلفات إلى البحر، وتصدر كل تلك الأعمال الكثير من الضجيج، وبعدما كانت الأسماك متواجدة في المناطق القريبة، أصبح الصياد يقطع مسافات طويلة مما يعني مزيدًا من الجهد والتكلفة المتمثلة في الوقود، وفي آخر المطاف المردود يكون غير مجزي؛ مما يعني تهديد معيشة هذه الفئة التي ظل وضعها المادي آمنا، ولا يشكلون أيَّ ضغط على الحكومة، وفي ظل تلك الظروف المجحفة لا مناص من الاعتراض على تلك المؤسسات التي أغلقت أبوابها في وجوههم مع أن مردودها المادي يقدر بالملايين، وهنا تتدخل الحكومة بحياء للتفاوض مع تلك الشركات المعفية من كافة الرسوم، لكي يحصل هؤلاء على فتات الوظائف لديهم كحراس الأمن والمراسلين والعمال.
ومن جانب آخر، يتضرَّر المجتمع الرعوي من الاستحواذ على مساحات كبيرة كانت تعتبر مراعي طبيعية لمواشيهم، وبعد أن كانت المواشي ترعى أصبحت حبيسة الزرائب لأنَّ المصانع والشركات وأصحاب الملايين تقاطروا من كل حدب وصوب على القرية الرعوية الوادعة، فأصبح اهلها حبيسي البيوت يستنشقون كل أنواع الأبخرة والملوثات، وانهارت ثروتهم الحيوانية التي كانتْ تمثِّل مصدرَ رزقهم، وأصبحوا يتردَّدون بين المؤسسات طلباً لوظائف ومصدر رزق بديل.
الغريبُ في الأمر أنْ تجد تلك الشركات العملاقة تبني مستوصفات صحية وتدعم مدارس وجمعيات خيرية خارج نطاق المناطق المتضررة، ويتوددون للمسؤولين الحكوميين بأن يقترحوا عليهم خدمات ومرافق في مناطق مختلفة بعيدا عن المجتمع المحلي المتضرر، ولا عجب أن تجدهم يمنحون جميع البعثات التعليمية التي يتبرعون بها خارج نطاق المناطق المستهدفة تحت حجج كثيرة بأنهم يستهدفون أسر الضمان الاجتماعي وذوي الدخل المحدود، وأنَّ وزارة التعليم العالي تحتم عليهم عدم خدمة المجتمعات المتضررة؛ لانهم لا تنطبق عليهم شروطها، ولكن وزارة التعليم العالي لم تعلم أن تلك الشركات تستثمر أرضا وموروثا تاريخيا يعود لهؤلاء البشر. أما الوظائف العليا والمتوسطة، فهي ليست مفصلة على قياسهم، بل على قياس من يتحكَّم بإدارتها، وأن المشروعات التي تدعمها تلك الشركات تطير آلاف الكيلومترات بعيدا عنهم، وتهاجر البعثات الدراسية لأنَّها لا تنطبق عليها؛ فماذا تراهم يفعلون؟!
إنَّ ضرورات الأمن والاستقرار الاجتماعي تتطلَّب إعادة النظر في هذه السلوكيات الانتهازية التي تهمش المجتمعات المحلية المتضررة من المشاريع العملاقة، ولسان الحال يقول: كتب عليهم أن تؤخذ ثقافتهم وحياتهم التقليدية ودخلهم الاقتصادي، ويُترك لهم الفقر والمرض والجهل، في مناطق تدر ملايين الريالات، بتسهيلات لا محدودة من الحكومة دون ضمان حقوق تلك المجتمعات التي باتت تنتشر فيها أمراض لم يعهدوها كالفشل الكلوي، وتليف الكبد، والإجهاض المستمر، والأمراض المتعلقة بالجهاز التنفسي...وغيرها. وهنا، يُراجع المواطن المؤسسات الصحية ويعمل على مزيد من الضغط على فاتورة الصحة إنْ وَجَد لديها علاجا وإنْ لم يجد يذهب إلى الجهات المانحة للمساعدات المالية كالديوان والمؤسسات الخيرية لكي يتعالج في الخارج، ومنهم من لديه تكافل اجتماعي قبلي، ومن لم يجد عليه أن يموت على فراشه.
إنَّ تلك الشركات تستطيع أن تبني المساكن البديلة في مناطق آمنة بيئيًّا، وأن توفر فرص العمل بعد أن يتم تدريب وتأهيل أبناء تلك المجتمعات؛ بحيث يمنحوا البعثات التي تقدمها الشركات بعيدا عن تدخل وزارة التعليم العالي، إلا من الناحية التنظيمية. ومن جانب آخر، يجب أن تمنح الأولوية لتقديم الأعمال اللوجستية ذات الطابع المتوسط لأفراد تلك المجتمعات، كما يُمكن لتلك المؤسسات أنْ تعمل على إيجاد تأمين صحي شامل للمتضررين من السكان المجاورين للمصانع عبر بناء مستوصفات صحية، وتوفير قيمة العلاج في الخارج أن تطلب الأمر، وفي الوقت ذاته تستطيع تعويضهم عن التغيرات الهائلة التي أحدثتها في بيئتهم بإنشاء المتنزهات والمسطحات الخضراء وملاعب الأطفال، في حين يُمكن دعم أنشطة الصيد الحرفي وتربية المواشي وفق نظام يتم الاتفاق عليه مع المؤسسات المعنية.
وبهذا؛ ستحصل تلك المجتمعات على النسبة المنشودة من الاستثمارات التي أقيمت على أراضيها. وهنا، يجب أن نشيد بما قدمته الهيئة العامة للتعدين التي خصصت 5% من دخل شركات التعدين (المناجم) للمجتمع المحلي؛ في إطار التصالح مع هذه الفئة التي ما زالت تبحث عن مخرج آمن لحقوقها المشروعة.
حفظ الله عُمان، وأدام على جلالة السلطان نعمة الصحة والعافية...،
alikafetan@gmail.com