لأننا لا نقرأ جيدا...لن نكون ديمقراطيين

 

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

يضع كثيرون التَّعليم كشرط من شروط نجاح الديمقراطية، ويرون أنَّ وضع صندوق في مُجتمعات غير مُتعلمة يشبه وضع قنبلة في يد طفل، حيث يتحرك النَّاس في هذه المجتمعات وفق نزعة الغنيمة التي لا ترى إلا الاستحواذ على الأصوات والأماكن في كل المجالس والجمعيات والأندية وأن يكون لهم الصدارة في أيّ واجهة رسمية أو اجتماعية أو مسجد أو حتى بنية مؤسساتية مناط بها أعمال ومسؤوليات جسام، لا يعني مثل هذا المُجتمع قطف الثمار بأية طريقة، أو وسيلة، أو مناشدة، والسؤال الآن، هل يقود التعليم إلى تغيير المُجتمعات لتعمل وفق مبادئ مُختلفة تنبذ مسألة قطف الثمار استغلالاً لغفلة النَّاس؟  لا شك أنَّ الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة، ولكن الرأي الغالب أنَّ التعليم يقود إلى نضج مُمارسة الديمقراطية، ولكن إذا كان التعليم لا يتطرق إلى تعليم الديمقراطية ومُناقشتها كيف تعمل، وتعليم المواطنين منذ الصِّغر كيف يكونون أناس ديمقراطيين، يتمسكون بقيم العدالة والمساواة والصالح العام، ويلتزمون بمسؤوليتهم في الحفاظ على المشروع الوطني، ولعب الأدوار المنوطة بهم في الارتقاء به، والحفاظ على أهدافه وغاياته بعيدًا عن أية نزعات تغلب التراتبية المجتمعية وهرميتها السابقة، هل يمكن أن يحدث هذا في مُجتمعات مُتعلمة؟ نعم قد يحدث في مُجتمعات ويصنع لها التعليم مجالس متعددة المستويات قادرة على حل الإشكاليات والتخطيط والتشريع والتقدم للأمام، ولا يحدث في مجتمعات أخرى لأنها تصر على أن تتعامل مع الأمور بمنطقها التقليدي القائم على الغنيمة التي لا يجب التفريط فيها فلا تتمكن من التوظيف الصحيح لها في حل أية إشكاليات، عندها لا يقرأ الوضع جيدًا، فيبرر الأمر بأنَّ الديمقراطية لا تصلح لمُجتمعاتنا، ولا يُقال نحن لا نصلح للديمقراطية، لأنَّ علينا نحن أن نتغير حتى تنجح النظم الحديثة في مجتمعاتنا، بالتالي المطلوب إذن ليس التعليم فقط إنما القدرة على القراءة الواعية لما يجري على حد تعبير الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر :"تقتضي الديمقراطية الحقيقية أن نتعلم القراءة جيداً، ليس فقط قراءة النصوص بل الصور والأصوات أيضًا، أن نتعلم الترجمة عبر اللغات وأجهزة الإعلام ووسائل الاستماع والتعبير والتمثيل وصناعة الفن وصياغة النظريات".

إذن القراءة الجيدة والناقدة هي الشرط الأساسي لتعزيز الديمقراطية ومن ثم تعزيز التنمية، ولكن لا نزال قارئين غير جيدين، أو لنقل قارئين غير ناقدين لواقع الديمقراطية في حل إشكالياتنا، لأنَّ النقد لا يفهم على أنَّه تشخيص حقيقي للمشكلة بقدر ما يفهم على أنه تعرية لا أخلاقية أو وطنية لها، حتى في لحظات الأزمات التي تصبح فيها مثل هذه القراءة الجديدة واجباً وطنياً لا يُضاهيه أي واجب، من أجل الخروج بحلول أو إن لم يكن ذلك من أجل تقليل تفاقم الإشكالية لماذا يكون نجاح  كل هذه المجالس واللجان بمُختلف مستوياتها من القاعدة إلى القمة محدودا في معالجة إشكاليات قد تكون صغيرة في بدايتها؟، لماذا نجد كل منها يعبر بجرأة عن أنها لا تدخل في نطاق مسؤوليته بدلاً من أن يقول رغم أنها لا تدخل لكن لدينا حلول يمكن أن نقترحها ونتعاون مع بقية الجهات لتطبيقها، لنأخذ مثلا الإشكالية الكبرى الباحثين عن عمل، توالت التصريحات من هنا وهناك بعد جلسة مجلس الشورى مع وزير القوى العاملة، لم نجد أحد يقول إنَّ هناك حلولا، بل إن الوزير المعني أعلن في المجلس أنَّ وزارته غير مُختصة بإيجاد فرص عمل لوحدها، وأنَّها خاضعة لمنطق العرض والطلب، ومن ثم خرجت لنا تصريحات أخرى ضبابية لا تُعبر عن حلول، لنأخذ قضية أخرى جوهرية وهي اختصاصات التعليم العالي وارتباطها بسوق العمل، قيل عنها الكثير ولكن لم نتمكن من حلها رغم تعدد اللجان والمجالس المُختصة، وبدأنا نسمع في الآونة الأخيرة تصريحات من هذه الجهات أن التعليم لا يجب أن يرتبط بسوق العمل، وأن أولئك الذين يربطون ذلك لا يقرأون العالم بشكل صحيح، ولكننا كُنا نريدهم أن يقرأوا الواقع المحلي بشكل صحيح، هم لا يعملون من أجل الواقع العالمي، بل يعملون للواقع الوطني.

 إنَّ من يصنع المشكلة ليست هذه المجالس واللجان والمؤسسات، إنما الأصوات التي تتمتع  بشرعية مؤسساتية لتقديم نصوص وصور وتعبيرات تعيق القراءة الجيدة للواقع، وتحاول أن تصور ذلك على أنه الترجمة الحقيقية للمسؤولية الوطنية، ولا أعرف أية مسؤولية وطنية يقدم وفقها خليط من التحليلات والتفسيرات التي تشجع أي متخذ قرار على العدول عن أية نزعة تطويرية حين يجد من يقول له أنت تقوم بعمل رائع، وليس هناك أفضل مما هو كائن، وأي نقد من المُستفيدين للمؤسسة التي تقودها ليس لأنَّ مؤسستك لا تعمل بشكل جيد ولكن لأن المستفيدين لا يقرأون جيداً، قدرك أن تتعامل مع مستفيدين لا يقرأون، وإن قرأوا لا يفهمون، وفي ظل هذا التأطير والتنظير والتلميع، والتزييف، تتحول هذه الأصوات إلى ما يُمكن أن أطلق عليه "عقل مُفبرك"، ولا يوجد أخطر على أي بلد في لحظات الأزمات والتحولات من هذا العقل، لأنه يُعيق النظر إلى الأمام ويعمل على صياغة واقع مختلف، وأجندة لا يستفيد منها المشروع التنموي.

 

كيف نستطيع أن نقرأ الواقع قراءة جيدة، وهذه الأصوات بما تدير من مؤسسات تمنح الأرقام المهمة دلالة غير دلالتها، وتعيد ترتيب المراكز وفق ما يتوافق مع رغباتها، وتصر على تصنيف الأشخاص وفق مقاييس وضعتها لتتلاءم تبعا للقرب أو البعد من "العقل المفبرك" الذي توظفه في تحليل الظواهر والأحداث، وتعمل على أدلجة المجموعات الافتراضية الشبكية بدلاً من أن تعمل على جعلها مساحات وفضاءات للانطلاق إلى قراءات جيدة تفيدنا في التحول إلى مجتمع يعرف أين الحروف التي تحتاج إلى نقطة واحدة بدلاً من نقطتين، بل أن مضى البعض بعيدا في صناعة هذا الواقع حيث يعمل حثيثا في محاولة تعزيز هذا الواقع من خلال صناعة مُترجمين جدد يُقدمون له قراءاته التي يحتاجها للتعبير عن  نظريته التي صاغها للواقع، ويحاول أن يمنحهم شرعية ومكانة بل ويحولهم إلى أبطال بطريقة ملتوية، متناسياً ضعف هؤلاء المُترجمين وهشاشة التوصيفات التي يقدمونها، وصعوبة المكان الذي يراد لهم أن يكون فيه.

 

ما الذي تحتاجه مُجتمعات تمر بمرحلة تحوّل حادة من مرحلة إلى مرحلة أخرى؟ الإجابة بسيطة جدًا تحتاج لأن تقرأ بشكل جيِّد حتى لا تأول ما تمر به بشكل خاطئ، وتبني قراراتها على التأويلات الخاطئة، في وقت يتطلب الأمر تضييق هامش الخطأ في أية قرارات وسياسات يمكن أن تتخذ، وبالتالي لابد من مراجعة على الأقل مسارين حتى نتمكن من الوصول إلى القراءات الجيدة الواعية، وهما التعليم والإعلام، إن هاذين القطاعين إن لم يعملا على مراجعة النصوص والتعابير والترجمات التي يقدمانها عن الماضي والحاضر والمستقبل لهذا المجتمع، لن يتمكن هذا المجتمع من مواجهة ما ينتظره من تحولات، هذه المراجعة ضرورية لأن بناء مواطن واعٍ خير ألف مرة من بناء مواطن مشوش غير قادر على فهم ما يجري حوله، إن هذه المراجعة ضرورية وتتطلب فتح أبواب الحوار والنقاش على مختلف المستويات خاصة في ظل هذه الفترة التي قال عنها الوزير يوسف بن علوي: إنها يجب أن تكون مرحلة "الانطلاقة الكبرى"، وأراه كان صائباً في تعبيره لكن كثيرين ربما لم يفهموا مغزى ما يرمي إليه، وهو الذي تتطلب عباراته ترجمة مختلفة عن الترجمة التي يقوم بها المترجمين الجدد، فكيف تتحقق الانطلاقة الكبرى في ظل وجود أزمة اقتصادية لا أحد يعرف حدودها؟ هذا السؤال الذي يجب أن يُناقش في هذه المرحلة، لأن ما يرمي إليه الوزير بن علوي ولم يقله صراحة معتمدًا على وجود مترجمين واعين هو مرتبط بصناعة العقل الواعي" الذي يقود إلى تعامل واع مع الأحداث، بدلاً من "صناعة العقل المفبرك" الذي يقود إلى تأويلات وتفسيرات مضللة للأحداث، ولذا في ظل هذه المعطيات تصبح إعادة توجيه الدور التعليمي والإعلامي ضرورة كبرى، بدون هذا التوجيه الذي يفتح الباب للقراءات الواعية والجيدة لكل المُعطيات، ويوجه الأنظار للخلل ومواضعه، ويبرز الإخفاقات، ويتابع التخلف عن تحقيق المؤشرات لا يمكن السيطرة على هذه التحولات.