التقشف.. ومخاطر تقهقر الطبقة الوسطى

 

 

د. سَيْف المعمري

حين تمَّ الإعلان عن الإجراءات الاحترازية المالية في بداية 2016م، بعثت الجهات الرسمية رسالة مهمة جدا وهي أن الإجراءات "لن تمس المواطن"، أي أنها ستكون بمعزل عن المواطن واستحقاقاته، وما يؤمن له معيشة غير مقلقة، ولكن هذه العبارة العامة لم تحظَ بنقاش تحليلي، ليس من أجل إثبات عكسها، ولكن من أجل تقنين استخدامها؛ وبالتالي عزل الجوانب التي لا تقع تحت مظلتها؛ لأنَّ ذلك العزل يتيح فهما واضحاً لتداعيات التقشف على المواطنين، وبالذات الطبقة الوسطى التي تمثل صمام الأمان في أي مجتمع، وبعد مرور عام كامل على تلك الرسالة التي بعثت من أكثر من جهة، وجدنا أن الإجراءات التقشفية لم تمس إلا "المواطنين"، بدرجات مختلفة تبعاً لوضعيتهم الوظيفية (سواءً موظفين أو طلابا)، وأيضا تبعا لطبيعة القطاعات التي يعملون فيها (مدنية أم غير مدنية)، و (عامة أم خاصة)؛ فالموظفون لم تمس الإجراءات رواتبهم، ولكنها مست ترقياتهم، ومست الخدمات الإدارية التي يحصلون عليها، والخدمات الأخرى التي يحصلون عليها من السوق، وطلاب التعليم العالي الذين يزيد عددهم على مائة وخمسين ألفا مستهم هذه الإجراءات لأنهم أيضا يستخدمون تلك الخدمات الإدارية العامة، ولم يتم مراعاتهم، والخريجون الذين يزيد عددهم على الأربعين ألفا مستهم بشدة هذه الإجراءات؛ لأنه لا يلوح في الأفق حتى الآن أية بادرة لتوفير فرص عمل لهم بالذات في القطاع الخاص الذي تعول عليه الحكومة لتوظيفهم، وقد أعلنها بصراحة وزير القوى العاملة في استضافة مجلس الشورى له؛ حيث قال لا توجد لديَّ حلول، ولست مسؤولا لوحدي عن توظيف هؤلاء الشباب؛ فالأمر كما قال يرتبط بالعرض والطلب، والعرض محدود في القطاع الخاص، وقد خرجت بعض الطروحات من قلب القطاع الخاص ترد بشدة على مطالبات أعضاء المجلس؛ حيث قال أحدهم: "القطاع الخاص ليس جمعيات خيرية". إذن، قطاعات كبيرة من المواطنين معرضة أكثر للمساس بجوانب حياتها نتيجة هذه الإجراءات، وهم يمثلون "الأغلبية" التي تؤكد الحكومة أن سياساتها وإجراءاتها موجهة لتحقيق الاطمئنان لهم وأسرهم.

تأتي هذه الأزمة في الوقت الذي بدأت تظهر في عُمان طبقة وسطى نتيجة تزايد نسب التعليم العالي، ومن المعروف أنَّ التعليم أكبر ضمان لإمداد أي مجتمع بالمبدعين والكفاءات الشابة، ونتيجة أيضا تزايد في أعداد فئات المهنيين والتخصصين مثل الأطباء والمهندسين وغيرهم من أصحاب المهن التخصصية، علاوة على ظهور مجموعة من صغار التجار ورجال الأعمال الذين حاولوا أن يؤسسوا مشروعات صغيرة اعتمادا على بيئة تحفيزية توفرها الحكومة، وكذلك تزايد حصة الفرد من الدخل الوطني وهو أحد أهم المعايير في تحديد حجم الطبقة الوسطى؛ فمن المعروف أن دخل الشخص الذي ينتمي للطبقة الوسطى يتراوح بين 70 و150 بالمائة من متوسط دخل الفرد العادي في المجتمع، وفي وقت بدأت حصة الإنفاق على الترفيه أيضا ترتفع نتيجة تلك المعطيات التي تستخدم في تقييم الطبقة الوسطى في أي مجتمع، وهي عوامل محفزة وداعمة إلى استقرار هذه الطبقة وتزايد نشاطها وتأثيرها في تحريك التحولات السياسية والاقتصادية والثقافية، ولكن كل هذه المحفزات تتعرض اليوم إلى ضغط كبير نتيجة الإجراءات التقشفية، وهو ضغط إن استمر على المدى الطويل لن يؤثر على أفراد هذه الطبقة التي لا يعرف حتى الآن حجمها فقط، وإنما سيؤثر أيضاً على التحولات التي يجب أن تمر بها البلد لإرساء دولة المواطنة والقانون.

لم تحظَ هذه الطبقة بالدراسة في دول جميع دول الخليج بما فيها عُمان، ولكن القرير الذي أعده الدكتور حسن العالي في يوليو 2013 لمركز الجزيرة للدراسات بعنوان "الطبقة الوسطى في دول مجلس التعاون الخليجي: الخصائص والآفاق"، قدَّم بعض الإحصاءات لهذه الطبقة في دول الخليج؛ حيث تراوحت بين 12% في السعودية، و20% في البحرين وعمان و33-35% في الكويت والإمارات، مقارنة بنسب بعض الدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي بلغت النسبة فيها 45% والهند والصين التي تصل النسبة فيها إلى 55%. وهذه النسبة تعتمد في جزء كبير منها على تدني أجور العمالة الوطنية في القطاع الخاص، وهو القطاع الذي يراد له اليوم أن يقدم فرص توظيف حسب شروطه وأجوره للآلاف من الشباب الخريجين، فكيف يمكن أن ترتفع نسبة هذه الطبقة في ظل هذا الواقع؟

إن وجود الطبقة الوسطى يعني وجود طبقة مستنيرة متعلمة واعية بين طبقتين: الطبقة العليا من المجموعات التجارية الكبرى، وأيضا النخبة القبلية التي لديها عوامل القوة القديمة من خلال نفوذها وملكيتها لمساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، أو من خلال إشراكها في منظومة الإدارة الحكومية المحلية أو الإدارية العليا، والطبقة الدنيا التي تخرج من دائرة المؤهلات العليا أو من التملك أو المناصب الإدارية العليا التي يشغلها أفراد الطبقتين الأخريين؛ وبالتالي فإنَّ الطبقة الوسطى التي سعت لتوسيع نطاق المشاركة السياسية في البلد، والتي طالبت بتعديل كثير من القوانين والتشريعات، والتي تعمل بشكل يومي على بناء الوعي بكثير من قيم المواطنة التي ترسخ دولة المؤسسات، وتوجد فرصا متعددة للمواطنين في التعبير عن إشكالياتهم وطموحاتهم بشكل مدني ناضج يقوم على المسؤولية في التعبير عن الرأي، وفي رفع مستوى الوعي الوطني، وضرورات الإنتاج والعدالة في توزيع، والمساواة في الحصول على الفرص، تواجه بتحديات كبيرة في ظل أوضاع التقشف المستمرة التي يتزايد فيها زيادة الرسوم على مختلف الخدمات.

لا شك أنَّ تحديات كبيرة تواجه الطبقة الوسطى في البلد أيًّا كان حجمها وشكلها والدور الذي يمكن أن تلعبه في النهوض بالبلد؛ مما يتطلب سياسات تقلل من مهددات هذه الطبقة وغيرها، وهي تبدو حتى الآن غير واضحة؛ فالمتابع لنقاشات العام الماضي الاقتصادية يجدها بعيدة جدا عن طرح الإشكاليات بصورة واضحة والعمل على تقديم بعض الحلول المختلفة للتقليل منها؛ لأنَّ حتى ارتفاع نسبة الخريجين من حملة المؤهلات الجامعية ليس ضماناً كافيا للمنافسة لأفراد هذه الطبقة في ظل ضعف الجودة، هذا بالعكس أصبح مبرراً لعدم تقديم فرص لها في الوظائف العليا أو المهنية أو التخصصية في القطاع الخاص، وسيزداد توظيف هذا المبرر لو تم التوسع في خيارات الخصخصة سواء للتوظيف أو التشغيل لبعض القطاعات الحكومية؛ مما يقود إلى تقهقر كبير جدا للآمال التي يحملها أفراد هذه الطبقة، وسوف يصاحب هذا التقهقر تزايد تمركز العمالة الوافدة في كثير من القطاعات الإنتاجية والخدمية وحتى الحكومية؛ مما سيضعف علاقة الشراكة الاقتصادية التي تمحورت حولها المواطنة، وما يرتبط بها من توفير وظائف، وترقيات، وتوفير دعم للخدمات، وتقليل رسوم الخدمات العامة؛ مما يعني أن "المساس بالمواطن" يعني مساساً بالتحولات الضرورية لاستمرار التنمية واستدامتها.

وبالتالي؛ لابد أن نخرج في هذا العام من عمومية النقاشات والتداعيات، وأيضا ضبابية الحلول، إلى استنهاض الفكر الاقتصادي والعلمي، واللجوء إلى العُمق التاريخي، والاعتماد على الكفاءة الوطنية في إيجاد حلول قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل لتمكين العبور الآمن نحو أنشطة إنتاجية ذات قيمة مضافة للمواطنين لا فقط للمستثمرين؛ لأنَّ جلب الاستثمار في حد ذاته لا يعتبر نجاحا ما لم يصاحبه تأمين فرص عمل لأبناء البلد الذين يمثلون المورد القوي الذي يضمن تدفق الأفكار الجديدة والإبداعات، والابتكارات، والمعرفة وتطبيقاتها.