علي المعشني
أثار القرار الوزاري الخاص بتشكيل لجنة وزارية لدراسة جدوى إدارة المدارس الحكومية من قبل القطاع الخاص زوبعة كبيرة من الانتقادات والغرابة والاستهجان من المواطنين عبر وسائل التواصل الاجتماعي والصحافة المحلية.
ومرد هذا الامتعاض الشعبي إلى مبدأ عدم المساس بالتعليم ومجانتيه، إضافة إلى توقيت القرار مع الأزمة المالية الحادة التي تعيشها السلطنة وكأن الخصخصة هي الترياق والبلسم الشافي لإخفاقات الحكومة في معالجة تنويع مصادر الدخل طيلة العقود الأربعة الماضية، بل وكأن القطاع الخاص يمتلك من قدرات النجاح والتفرد ما يفوق قدرات الحكومة ويرمم عثراتها.
حين صدر المرسوم السلطاني رقم (101/96) بالنظام الأساسي للدولة كنت أصبوا وأتمنى كغيري من الكثير من المواطنين أن تشتمل مواد النظام على بعض "المحرمات" الدستورية، كعدم المساس بمجانية التعليم وعدم المساس بمجانية العلاج، ولكن عدم تطرق النظام الأساسي لأي من القطاعين ومكاسبهما للوطن والمواطنين كحال العديد من الأقطار في العالم جعل للاجتهاد بابا كبيرا مفتوحا وربما اليوم سيتم طرق باب التعليم أولًا كبالون اختبار لقطاعات أخرى.
الخصخصة وصفة قاتلة للدول والشعوب الفتية في التنمية والعصرنة والتي لم يشتد عودها ولم تتشكل هويّتها وملامحها بصور نهائية، وبما أنّ الحكومة – أي حكومة كانت – والدولة بالمفهوم الأوسع تسعى لتقديم الخدمات الشاملة للمجتمعات وليست جهات تحصيل أموال أو جباية، فإنّ الخصخصة تتنافى مع مفهوم دولة الرعاية والحكم الرشيد الذي اعتدناه في سلطنتنا الحبيبة.
الخصخصة في عميق فلسفتها هي شهادة إخفاق لأي حكومة وإخضاع مقدرات وطن لانتفاع فئة أو شلة بعينها، وإذا نجحت الخصخصة بشكل جزئي في بعض الدول العميقة فإن ذلك لا يعني بالضرورة نجاحها في جميع الدول، كما أن تحكّم الدولة وإدارتها لقطاعات مهمة وشركات كبرى جنّب دولا - كالسويد مثلًا -خسائر وانهيارات مالية عالمية كبيرة.
نحن لغاية اليوم لم ننجح في اختيار منظومة تعليمية شاملة وناجحة، وما زلنا نتلمس الطريق للوصول لذلك الحلم، وحين أقول منظومة تعليمية شاملة أعني منظومة توصل ما انفصل من حلقات التعليم بجميع حلقاته ومراحله وأنواعه بحلقات متسقة ومتناسقة ومتناغمة تستقي فلسفتها من معين واحد وتنشد هدفا واحدا.
حيث مازال التعليم العام في واد والتعليم الجامعي في واد آخر من حيث المناهج والتحصيل وقدرات التلاميذ والطلاب، لهذا استعننا بسنوات التأهيل لجبر ضرر وضعف مخرجات التعليم العام، يضاف عليها التدريب المهني والتعليم التقني واللذان ما زالا دون الطموح بمراحل كثيرة.
التعليم الخاص بجميع مراحله ما يزال مراهقًا وربحيًا إلى حد بعيد، ويقتات من كرم ورعاية الحكومة ويعيش على ثغرات وخلل منظومتها التعليمية، ولكنه في المقابل لم يقدم ما يبرهن تميزه وتفرده عن التعليم الحكومي، ومرد ذلك إلى عدم وجود تصوّر لدى الحكومة عن ماهية ووظيفة التعليم الخاص، وهل هو منافس جدي للتعليم الحكومي أم مكمّل له أم نسخة باهتة منه؟! حيث لا وجود لمنشآت تعليمية خاصة مميزة في الشكل والمضمون، ولا زالت أغلبها في منازل مستأجرة لا تحمل أي صفة من صفات المدارس أو البيئات المدرسية النموذجية المرجوة، ولا تتوفر لتلك المدارس الحرية في إدخال مواد ومهارات منافسة ومحفزة للطلاب وأولياء الأمور ومكمّلة لمناهج وأهداف التعليم الحكومي ومبررة لإنفاق منتسبيها.
من هنا يجب علينا أن نتساءل عن الحكمة من خصخصة المدارس الحكومية وفي هذا الظرف بالتحديد؟ وما الذي سنجنيه من وراء ذلك؟ طالما الوضع التعليمي برمته بشقيه الحكومي والخاص بحاجة ماسة إلى تقييم وتقويم وإنفاق سخي، وفي كل الأحوال أرى من الضرورة استمزاج الرأي العام وإشراكه في هكذا تصور وقرار لتجنيب الحكومة المساءلة ورفع العتب عنها.
تفاءلت كغيري بالتعليمات السامية بتخصيص الخطة الخمسيّة التاسعة للتنمية البشرية وبإشهار المجلس الأعلى للتخطيط وتكليفه بالإشراف والتخطيط والتنفيذ لهذه الخطة، والسبب الرئيس لتفاؤلي يكمن في أنّ التعليم ركن أساس من أركان التنمية البشرية ويمكن توظيف جزء مهم من الخطة الخمسيّة المذكورة لإصلاح بنيوي في التعليم وتنمية مرافقه ووسائله وتحسين القائم منها لتصبح بيئات تعليميّة جاذبة بكل المقاييس للمعلم والطالب على حد سواء، ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي سفننا.
أتذكر جيدًا ما قالته المستشارة الألمانية ميركل في برلمان بلادها ردًا على المطالبين بتقليل الإنفاق على التعليم في إطار خطة الدولة الألمانية للتقشف؛ حيث قالت: "إن التعليم يعني أنا وأنت والطبيب والمهندس وكل شرائح المجتمع المنتجة، وبالتالي فإنّ المساس به يعني انهيار منظومة الدولة والمجتمع".
كما أتذكر جيدًا المظاهرات العارمة التي اجتاحت عددا من المدن الألمانية في بداية الألفية لرفض مشروع قرار للحكومة بفرض رسوم تعليمية جامعية على الطلبة الوافدين في الجامعات الألمانية، حيث ردد الألمان بصوت واحد وبشعار واحد وهو أن التعليم حق إنساني لا يحق لأحد المتاجرة به أو الحؤول دون الوصول إليه. وأسقط المشروع الحكومي وبقي التعليم الجامعي في ألمانيا ولغاية اليوم مجانيا للمواطن والوافد.
وهذين المثالين لا علاقة لهما بدولة متطورة وأخرى متخلفة بل بقدر الوعي برسالة التعليم وفلفسته وإنسانيته خاصة وأننا في السلطنة لدينا موروث عميق وزاخر بقدسية التعليم ورسالته يفوق أغلب الدول المتقدمة اليوم، كفريضة دينية قبل أن يكون حاجة دنيوية أو ضرورة تنموية.
قبل اللقاء: "افتح جامعة تُغلق سجنًا". وبالشكر تدوم النعم.