علي بن سالم كفيتان
ذكريات الإنسان هي مخزون وافر بالأحداث حلوها ومرها ورغم كل الظروف تظل مثل الشريط الذي يعمل بشكل فجائي عندما يسرح بنظره إلى البعيد متجاهلاً الزمان والمكان ومحلقاً إلى ذلك المجهول المدفون على رف الماضي احياناً يقدر الجالسون حولك إبحارك هذا بينما يراه الآخرون ضرباً من الهذيان والجنون ولا يعلمون أنَّه الحنين للزمن البعيد بأحداثه المتغيرة والشيقة والصعبة معاً.
طار بنا شريط الزمن إلى منتصف الثمانينيات في قريتنا الصغيرة (أمبازجه) الوقت شتاء والرياح تُحرِّك كل شيء بما فيها الأحجار الصغيرة التي تنطلق من على الشارع الترابي إنّه يوم الجمعة والقطار الذي ينطلق للمدينة لم يحن موعده بعد إنِّها سيارة (النيسان جينير الزرقاء) لصاحبها بخيت بن نيشر حيث يتوجب على الجميع حجز مواقعهم قبل الإقلاع المُحدد بالساعة الثامنة الأولوية في كبينة رجال الأعمال كالعادة لكل من الجد علي بن سعيد نيشر ورجب بن علي، وسعيد بن زيدي مع عشرات العبوات المعدنية المملؤة بالسمن البلدي، إنها السلعة الرئيسية التي تنطلق أسبوعياً لسوق المدينة وكانت تشكل دخلاً جيداً لملاك الأبقار في قريتنا.
أنا وبعض أصدقاء العُمر مثل محمد محيسن، وسعيد معشاق، وأحمد ألون نكون في المحطة منذ وقت مُبكر لحجز الرحلة الوحيدة المضمون إقلاعها وعودتها للقرية (سيارة أبو علي) أذكر بأننا نكلف برعاية الكثير من عبوات السمن في الصندوق الخلفي للسيارة ولا أخفيكم فأبو علي متهور قليلاً في القيادة مما يصعب مهمتنا في الحفاظ على توازن الحمولة السائلة وكنا نتنفس الصعداء عندما تصل بنا السيارة إلى الشارع المُسفلت، بينما ينضم لنا آخرون نجدهم قابعون مع عبواتهم المعدنية المملوءة بالسمن أو الحليب وفي أحيان نادرة بالعسل على أطراف الطريق والجميع في ذلك اليوم يبدو نظيفاً ويلبس أفضل ما عنده كونه يوم جمعةٍ ويوم زيارة المدينة التي يجب أن تبدو فيها أنيقاً فجميع كبار السن يحلقون لأنفسهم ذاتياً صبيحة ذلك اليوم فكل واحد تجده واقفاً أمام المنزل وبيده مرآة صغيرة وفي الأخرى الموس الأبيض بينما اللسان يتدحرج من الداخل لتبرز كل تقاسيم الوجه المطلوب حلاقته أما نحن الشباب فقد تعودنا على زيارة سوق الحافة حيث الحلاقين وخرازين النعال والمطاعم التي نتلذذ بأكلاتها المُفضلة مثل الكيمة، والدال، والخضرة مع الخبز الشباتي الساخن بينما يزدحم المكان بالباعة المتجولين وفي أحيان كثيرة نصادف بعض الشيوبة الذين نزلوا معنا يتربعون على الأرض لبيع سمنهم البلدي.
وقبل حلول صلاة الجمعة نأخذ كعادتنا التاكسي إلى عوقد وبالتحديد لإحدى المزارع القريبة من جامع الرعود فهو الجامع الكبير الذي يلتقي فيه الجميع نقوم بممارسة هواية السباحة والاغتسال للجمعة في البرك الموجودة في تلك المزارع التي تهدر مكائنها حتى قبل أذان صلاة الجمعة كم كان ذلك مُمتعاً وخاصةً عندما تجول بناظرك للحقول الخضراء الممتدة وأشجار النخيل التي تتراقص أغصانها مع كل نسمة هواء مع حفيف جميل للأوراق وخرير لا ينتهي للسواقي الطينية بينما يقوم العامل الباكستاني وخلفه صاحب المزرعة بفتح الماء إلى المزروعات كل حسب حاجته إنها صورة للجنة في عقولنا الصغيرة وكم نشتاق لتكرار هذه النزهة التي لا تنسى.
ندخل الجامع ونجلس بهدوء وأدب في آخر المسجد بينما تجد كبار السن متكئون على أطراف المسجد ومكان الشيخ عوض الرعود ووسادته شيء مميز في هذا المكان بينما الآخرون من الريف والبادية يتحلقون حوله ولا زلت أذكر الزاوية اليسرى التي يحجزها الشيخ مسلم علي كفيتان وبجانبه محاد بن أحمد بلاح وآخرون من الذين قد رحلوا عنا رحمهم الله. تكون الخطبة ارتجالية ويتلوها شيخ أزهري ضليع في العلم ويعلم عادات البلد جيدًا حيث يُركز في خطبه على توعية النَّاس بما هو مستجد في حياتهم اليومية أذكر أنّ تلك الخطبة كانت عن فضل الزواج وفضل التَّعدد بينما يتنحنح الشيوبة مُبتسمين لبعضهم البعض مع يقيني بأنَّ معظمهم لا يجرؤ حتى على التفكير في الأمر وعند خروجنا كل يذهب إلى أقاربه في المدينة وأنا بدوري كنت أذهب مع خالي إلى بيت سعيد بن سهيل نيشر رجل كريم وأم مسلم كانت تضيف الجميع وترحب بهم فالضيوف في هذا اليوم كُثر ومعظمهم من الريف.
بعد الغداء يتم تشغيل التلفزيون العادي بالألوان الأسود والأبيض حيث يتابع الجميع الفيلم الهندي الذي لا يخلو من الغناء والرقص والمُبالغات في البطولة والتصدي للأعداء ورأيت بعيني البعض يبكي من كثرة التأثر بالمواقف وخاصة إذا كانت إنسانية وكم هم بارعون -الهنود- في مثل هذه الأدوار.
الساعة الثالثة هي الموعد المُحدد للعودة فتجد كل من نزل معنا من الريف مُتحلقاً حول السيارة الزرقاء بينما ينطلق أبو علي في طريق العودة ولنا محطتان ثابتتان إحداهما عند دكان سهيل دوف النقيب لكي يتزود كل من يرغب بشراء المؤونة والهدايا لأسرته وأقاربه وكان دكانه عامرًا بالبضائع كما أنّه رجل كريم فكان يسمح بالدين لمن ليس لديه مبالغ نقدية ويتقبل السمن كمعوض عن النقود في بعض الأحيان كانت هناك أنواع لا تحصى ولا تعد من الحلويات التي كنّا نستمتع بمذاقها وكان خالي كعادته يترك الفكة في طفاية السجائر التي تكون مملوءة عن آخرها بالعملات المعدنية من فئة النصف ريال وفئة المئتين بيسة الزرقاء وكان رحمه الله يقول لي خذ منها واشتري لنفسك ما تشاء فكانت كالبنك المُتجدد لنا نحن الشباب كل جمعة، والمحطة الأخيرة قبل الإقلاع إلى الريف كانت دكان العدناني حيث يتم بيع الأعلاف والحشائش الحيوانية وهي المحطة المزعجة لنا نحن الراكبين في الخلف حيث يتم تكديس السيارة بالحمولة ونحن نجلس في أعلى القمة حتى نصل لقريتنا بعد العصر فنجد الأطفال الصغار في انتظارنا لعلهم يحظون بشيء من خيرات المدينة. ستظل تلك الذكريات حبيسة عقولنا ومهما تغير الوقت لا تزال هي الأجمل برجالها الأوفياء وطباعهم الحميدة وصبرهم اللامتناهي على عاديات الزمن.
استودعتكم الله موعدنا يتجدد معكم بإذن الله.
حفظ الله عمان وحفظ جلالة السلطان.
alikafetan@gmail.com