حميد بن مسلم السعيدي
أفرزت الفترة الماضية غياب التَّغير الحقيقي في المنظومة التعليمية، بالرغم من المُطالبات المجتمعية بإصلاح التعليم، إلا أنَّه لا يوجد مجال لترقب تغيير حقيقي يُمكن أن نلتمس منه بصيص أمل نحو مستقبل واعد للتعليم، فطالما نؤمن بأنَّ حق التعليم أحد الحقوق الأساسية للمواطن، فمن حقنا اليوم أن نطالب بأن يكون هذا الحق ليس في توفره وإنما في جودته بما يحقق الأهداف والغايات الوطنية، حيث إنَّ مُستقبل هذا الوطن يرتبط بمدى مقدرة المنظومة التعليمية على إنتاج مخرجات قادرة على إحداث التغيير الإيجابي في التنمية الاقتصادية.
فبالرغم من أنَّ التعليم يعتلي قائمة الإنفاق الحكومي مما يعكس مدى الاهتمام ببناء الإنسان العُماني، إلا أنَّ عملية إدارة هذا الإنفاق لا تأتي ثمارها الحقيقية، فمخرجات التعليم العام ما زالت تُعاني من ضعف المهارات التي تمتلكها، ولذا فهي تفضل الهروب والمُغادرة من استكمال التعليم العالي، والإحصائيات والدراسات البحثية تؤكد أنَّ هذه المُخرجات تفتقد للعديد من المهارات والقدرات التي يفترض أنَّها امتلكتها من التعليم العام، وهذا يمثل خسارة كبيرة في الموارد المالية التي يتم إنفاقها على التعليم، وخسارة أكبر في القوى البشرية التي يحتاجها الوطن من الأخصائيين والفنيين والمهندسين والأطباء والمُعلمين وغيرهم، وهذه المعادلة لا يمكن قبولها من الناحية الاقتصادية، فالفكر الاقتصادي للدول المتقدمة يعتمد على ما ينفق اليوم يسترجع في الغد، في حين أننا ندفع دون أن نجني ثمار ذلك الاستثمار، بالرغم من أننا نمتلك كل الظروف المهيئة لصناعة تعليم حقيقي قادر على بناء أجيال تمتلك من المهارات والقدرات العقلية ما يؤهلها للمشاركة الحقيقية في مسيرة البناء والعطاء لأجل عُمان، إلا أنَّ العمل التربوي لم يتمكن من تحويل هذه المادة الخام إلى مادة قابلة للاستفادة منها، بالرغم من تعدد الجهات والمجالس التي تشرف على التعليم، إلا أنَّ العمل التربوي لم يشهد له ذلك الأثر الإيجابي الذي يرضي طموح الجميع.
فالعالم يسبقنا بعقود وربما أزمنة في حين نحن نتراجع تدريجيًا وبصورة سريعة، دون أن تكون هناك مُعالجة مباشرة للحالة السائدة، مما يُشعرنا بالأسى والألم نتيجة للإخفاق في الاستفادة من الموارد المالية التي تنفق في قطاع التعليم، وضياع جيل من أبناء الوطن دون أن يجدوا البناء الحقيقي لهم، في ظل ما يشهده العالم من مرحلة تتميز بالتنافسية العالمية للسيطرة والتحكم في الأسواق العالمية والبحث عن المستهلكين لمنتجاتها، فهل نظل دائمًا نعاني من أزمات اقتصادية نتيجة الاعتماد على سلعة واحدة، أم أنّ علينا أن نستغل الفرص لصناعة اقتصاد قائم على الإنتاجية والتنافسية العالمية في البحث عن موارد مالية متنوعة المصادر.
وبما أنَّ الفترة الماضية لم تفرز ذلك التغيير الحقيقي في منظومة التعليم، وبالرغم من ثقتنا الكبيرة فيمن يُدير دفة التعليم نحو المراسي المُتقدمة، إلا أنه حان الوقت لفتح الباب ليكون المواطن شريكاً في تطوير المنظومة التعليمية، والاستفادة من الخبرات المتواجدة بالبيئة العُمانية، ومن المُتخصصين والأكاديميين ذوي العقول المدركة لأهمية التعليم ليكونوا جزءًا من مجالس تطوير التعليم، العمل على دعم التعليم مالياً من خلال إنشاء صندوق دعم المشاريع التربوية، من خلال الاستفادة من فرض رسوم بسيطة على بعض الخدمات يذهب ريعها لدعم التعليم، خاصة المشاريع الابتكارية للطلبة، ودعم ذوي الاحتياجات الخاصة من أجل توفير احتياجاتهم، مما يجعل المواطن يقدر قيمة التعليم ويركز على تربية أبنائه على التعليم عندما يكون هو شريكاً فيه، على أن يتم إنشاء هذه الصندوق من خلال فرض رسوم مالية رمزية على منظومة الاتصالات الهاتفية، من خلال فرض ما قيمته بيسة واحدة على كل دقيقة اتصال هاتفي، فبالرغم من صغر القيمة المالية لهذا الرقم إلا أنّ لها عائد الكبير في مساندة التعليم، وهنا نحقق الشراكة الحقيقية في مشاركة المواطن في تقديم الدعم المادي والمعنوي، مما يشعر الآخرون بحجم المسؤولية الملاقاة على عاتقهم.
أضف أننا بحاجة إلى إعادة برمجة العقول نحو الشعور الوطني بأنّ المرحلة القادمة تنطلق نحو تحويل المجتمع ككل ليكون جزءًا من العمل التربوي، بحيث تتحول البيئة العُمانية لبيئة تعلمية في كل الأوقات دون الاقتصار على فترة التعليم المدرسي، فقد حان الوقت أن يستشعر الجميع أهمية التعليم ودوره في بناء الوطن، دون الإخلال بالمسؤولية الوطنية تجاه الوطن، على أن يصبح قانون المحاسبة والتقصير في الواجب الوطني جزءا رئيسيا في تنظيم الحياة العامة، فلا يمكن القبول بالتخلي عن الأدوار الرئيسية لكل عضو في منظومة التعليم دون أن يلقى المحاسبة على أخطائه بحق الوطن وبحق أبناء هذا الوطن، فبدءا من المعلم الذي يجب أن يقوم بدوره الحقيقي في التعليم بحيث لا نقبل إلا الكفاءات الوطنية القادرة على القيام بواجباتها، فما ينفق من أموال ضخمة في التعليم يجب أن يسترد في مُخرجات تعليمية قادرة على تحمل المسؤولية، أو نتخلى عن هذه العملية ونتركها لغيرنا.
وعلى المؤسسة التربوية أن تتخلى عن أدوارها الاجتماعية في رعاية العاجزين فكريًا وعقلياً ونفسياً عن القيام بأدوارهم، فهناك مؤسسة اجتماعية مُتخصصة في رعايتهم، فمن لا يستطيع أن يُنجز عمله عليه البحث عما يتناسب مع قدارته، فتجارب الدول الصاعدة اعتمدت على منهجية انتقاء الكفاءات العاملة والمخلصة والأمينة، وتركت البقية للجهات الأخرى حتى تقوم بأدوارها، فالفترة الحالية هي مرحلة التعلم من إخفاقنا في تجاربنا السابقة، فحجم الإنفاق السنوي الذي يتجاور مليار ريال عُماني ينفق في التعليم، في حين أنّ المخرجات تغادر الدراسة الجامعية هاربة من ضعفها نتيجة عدم امتلاك المهارات التي تؤهلها للاستمرار في التعلم، ولا أود الزج هنا بالكثير من الأدلة التي تؤكد أنَّ التعليم يمر بمرحلة حرجة جداً، وحان الوقت للشعور بخطورة المرحلة القادمة، أما البحث عن حلول وقتية فيعتبر مشكلة بحد ذاته، فالهروب من المشكلة ليس هو الحل وإنما الاعتراف بعدم المقدرة على معالجتها، والاعتراف بالضعف وفقر الفكر والمنطق، وإعطاء الآخرين فرصة أن يقوموا بأدوارك هو الانهزام الحقيقي في مواجهة التحديات، وتحويل التعليم نحو الخصصة هو بداية السقوط نحو الهاوية، فالتعليم لا يُمكن أن يؤتمن عليه التجار وأصحاب المال، وتجربة الجامعات والكليات الخاصة خير دليل.
Hm.alsaidi2@gmail.com