جمعيات .. جعجعة بلا طحن!

 

هلال بن سالم الزيدي

اعتقدنا أنّه مع تمدد مؤسسات المجتمع المدني المهنية وتكاثرها بالطريقة التي نراها ماثلة أمامنا في هذه الفترة.. اعتقدنا بأننا بلغنا سن النضوج الذي يمكننا من أن نبني جمعيات لها منظور واضح وإستراتيجيات طويلة المدى تُرسم بمقاس المجال أو التخصص التي تعمل فيه، كما اعتقدنا ورسمنا أحلاماً كثيرة لتغيرات ستطرأ على القانون المُنظِّم لقيامها، وفقاً لقوة صوتها الذي يعلو وفق منهجية التوافق والمصلحة العامة والنابع من حركة ديموقراطية انتخابية.. التي تمثل منهجًا صارخاً فيمن يُشكك في قيمة وقوة العملية الانتخابية على مستوياتها كافة، إلا أنَّ مُعتقداتنا وآمالنا التي رسمانها كانت أشبه "بدقيق فوق رمال نثروه وقيل لحفاة في يوم ريح عاصف اجمعوه"، فآلت أمنياتنا إلى فشل ذريع في بعض من هذه الجمعيات لأنَّ الغلبة فيها كانت لمن يمتلك كاريزما الحضور والغياب وفن الظهور في وقت قرقعة الصناديق الانتخابية، وبالتالي أصبح وأضحى وأمسى كثير منها ــ ومنذ تأسيسها ــ يسير على خط واحد وآلية واضحة ثبتت ثُلة من أعضائها "المؤسسون" بخرسانة حديدية لا تقوى النوايا البسيطة على تحملها أو خلخلتها، لأنها فصّلت لوائحها الداخلية وفق متطلباتها على مراحل طويلة.. وهذا بالتأكيد مع الضعف الذي يسود بين الجمعية العمومية، فقد أُكل أعضاؤها كما أُكل الثور الأسود.

لقد فاحت روائح الفساد في السنوات الأخيرة من جراء ما تقوم به مجالس إدارات تلك الجمعيات من تصرفات، فتلوثت سمعة الكثير من القطاعات بحسب ما يتم تناقله بين أوساط الرأي العام، حيث بات كثير منها مضرب المثل في عدم التفاهم، وتأسست على ضوء تلك الخلافات التي ألقت بالقيم الخلّاقة لمفاهيم مؤسسات المجتمع المدني إلى قاع التشرذم والتمزق المفضي إلى البحث عن مصالح ذاتية، كون الفكرة حادت عن طريقها القويم. فهل يا ترى لم نكن جاهزين لبناء هذه المؤسسات لتكون رديفًا يتبنى قضايا اجتماعية واقتصادية تجد فيها الحكومة عنصر بناء لتوجهاتها؟! والجواب على التساؤل حقاً يبعث على الحزن، فعندما نسمع هدير المصطلحات ونقيق المجالس والمناسبات والتنظير المفرط في الوصف، والجعجعات التي لم تثمر طحناً يستفاد منه، فإننا نقول على الدنيا السلام، وسنُجبر على تبني لغة الصمت ليس انهزاماً وإنما احتراماً لذواتنا كي لا ندخل في سجالات عقيمة.

لقد اعتقد الكثيرون ممن بحثوا عن أمجاد شخصية من خلف بوابة تلك المؤسسات بأنهم هم الصالحون لكل زمان ومكان، وما تبقى فهم تكملة عدد يصعدون عليهم لتنفيذ مبتغياتهم، متجاهلين السمعة التي تتكون من تصرفاتهم وستنال من هيبة وقوة القطاعات الحيوية في المُجتمع، ولعل المواقف التي سجلتها في روزنامة تاريخها لم تمثل تحولاً في مجريات القطاع الذي تديره، وإنما فقط من أجل أن يقال إنّها فعلت ونفذت بطريقة ذر الرماد في العيون فقط ليس إلا، هذا مع احترامنا لبعض منها والتي حققت حراكاً إيجابياً واستفاد أعضاؤها والمجتمع من الأنشطة التي تُقدمها.

..إنَّ الحديث عن مؤسسات المجتمع المدني بإيجابياتها وسلبياتها، يحتاج إلى مُجلدات كثيرة يشترط فيه الشفافية والمصداقية في الطرح، وأنا هنا لست بصدد توجيه سهام الانتقاد لتلك الجمعيات التي أسقطت سمعتها في حضيض المصالح الذاتية، وإنما أوجه ملاحظاتي نحو فهم عميق لمجريات الأحداث التي أفسدت الرؤية العامة لمبادئ قيام الجمعيات، مؤكدا على ضرورة تقييم وضعها لتقويم مسارها، وذلك حتى لا تتوغل انحرافاتها وتصبح عادة أو تصبح منهجاً متداولا من جيل لآخر، لأنّه ليس هناك فرد أو جماعات يمكنها أن تدّعي الشفافية المُطلقة، لأن الشفافية أصبحت مُطلقة طلاقاً بائنا بلا رجعة.

إنَّ المُتتبع لكثير من مجالس الإدارات الثابتة المقاومة للتغيير يجد أنّها مجالس لا تقبل الرأي الآخر، فمع تماديها وارتفاع وتيرة الخلاف فيها، دفع الجهات المعنية لحل تلك المجالس وتشكيل مجالس مؤقتة حفاظاً على مكانة هذه المؤسسات من أجل ممارسة واجبها تجاه المجتمع، لذلك فنحن بحاجة إلى تدخل آخر يوضّح معنى اللوائح الداخلية لكل جمعية لأنها لم تبن وفق حاجة الأعضاء، وإنما وضعت بأهواء شخصية حتى لا تذبل الدجاجة التي تبيض ذهبًا، فأصبح كثير من تلك المجالس مجالس "إمبريالية" إن صح لي التعبير لأنّها استعمرت أصوات أعضائها وبددت أحلامهم من أجل تحقيق أهداف محدودة.

علينا أن نخجل من أنفسنا عندما نطالب الآخرين بأن ينهجوا المصداقية في تعاملهم مع متطلبات المجتمع، فيما إننا لا نستطيع تطبيق ما نقوله وننادي به عبر أبواق الشهرة الطنانة في محيط صلاحياتنا عندما مُنحنا التمكين في تسيير شؤون فئة اجتماعية، لذلك كان اعتقاد البعض بأنَّ بلوغ سدنة مجلس الإدارة هو الطريق للوصول أو للانضمام إلى الطبقة الارستقراطية، ومنها إلى عالم الثروة المادية لضمان مستقبل متأرجح.

إنني أشد على يد من دخل تلك المجالس إلا أنّه لم يستطع أن يُغير الأفكار التي اعتاد عليها القدامى "العتاة" في تعاملاتهم وقراراتهم،  لذلك سجل موقفًا يحفظ له مهنيته وكرامته بالانسحاب دون أن يحدث جلبة في محيط تلك المؤسسات، ولعله مؤشر خطير يجب التنبه إليه حتى لا تصبح تلك الجمعيات مسرحاً يمارس فيه أعضاء مجالس الإدارات هواياتهم المحببة إليهم، وتكون كذلك ميدانا خصبا لتصفية الحسابات الشخصية.

لا يُمكن اعتبار مؤسسات المجتمع المدني بريستيجا يُظهرنا اجتماعيا، وإنما هي مؤسسات تمثل مرجعية اجتماعية بعيدة عن البيروقراطية ومركزية اتخاذ القرار، أي: تفعيل الديموقراطية وتثبيت أطرها العامة، كما أنَّ طبيعة هذه المؤسسات المدنية يجب أن تتصف بحسب الكثير من المصادر والمراجع بأنها غير حكومية وغير إرثية ولا تهدف إلى الربح وطوعية الانتماء إليها، وبالتالي لا يمكن أن يتم التصرف فيها كأنّها أملاك خاصة يُديرها مجموعة محددة حتى وإن تسترت تحت ستار صناديق الانتخابات.. لأنني أسمع جعجعة ولا أرى طحنا.

لا يختلف اثنان على قلة الدعم المادي والمعنوي الذي تُعاني منه كثير من الجمعيات الأهلية، إلا أنّه من الضروري أن تكون هذه الجمعيات مقنعة في رسالتها وواضحة في مواقفها حتى تجد الداعم الحقيقي لها، وحريٌّ بها أن تتوسع في إقناع أعضائها، حتى تقتنع مؤسسات القطاع الخاص لتقديم دعمها لهذه الكيانات.

همسة:

قال سلمان رشدي: "في اللحظة التي تعلن فيها بأن مجموعة من الأفكار أعلى من النقد، السخرية، أو الاحتقار تصبح حرية الفكر مستحيلة".

 

 

كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

@Zehilal