أنا من هنا.. وأنا هنا مواطن

 

 

د. سَيْف المعمري

في هذا اليوم الفصل بين عامين، يقفُ كثيرون أمام الساعة، وينتظرون أن يرحل هذا العام بسرعة، في الوقت الذي أعمل أنا من هنا حيث أكتب هذا المقال بجد من أجل إنجاز مشروع بحثي قبل أن يأتي منتصف هذا الليل، وتُعْلِن الساعة بداية عام جديد، تنطلق فيه الاحتفالات من قبل الذين يضيفون للأعوام شيئا وأولئك الذين يسعون ليظلوا فيها مجرد أرقام لا دور لها ولا أثر، وفي اللحظة التي يعمل كثير من الناس على ترحيل مشروعاتهم التي لم ينجزوها إلى عام آخر، لا أعرف لماذا هذا الترقُّب الذي يسود لحظة الانتقال بين عامين، كل ما أعرفه في هذه اللحظة أنني لا بد أن أنهي هذا المشروع البحثي قبل الساعة الثانية عشرة ليلاً، هذا المشروع الذي يركز على الشباب والمواطنة في ظل كل هذه التحولات والانقسامات والصدامات التي تسود المجتمعات العربية، التي كانت وعدت قبل بضعة عقود بالفردوس إن هي تحررت من المستعمرين، ولكنها اليوم أبعد ما تكون عن هذا الفردوس، وكلما جاء عام تزداد المسافة بين الواقع والممكن، حيث تتوارى جميع المشاريع بالرفاه والعدالة والمساواة والدولة المدنية، والديمقراطية، والمشاركة، والتسامح والتعاضد، لم يبقَ إلا مشروع واحد لدى الإنسان في الوطن العربي هو البقاء هنا أو هناك حيًّا؛ فالحياة تظل مشروعا كبيرا جدًّا يستحق الإنسان في سبيله أن يحتفل كل يوم، وأن يتخلى عن كثير من الآمال والطموحات، وأن يتنازل شيئا فشيئا عن أحلامه في مجتمع يبصر في النور بدلاً من أن يظل يبصر في الظلام، الظلام الذي لا يرى فيه أحدٌ أحداً، ولا يمكن فيه تمييز الأصدقاء من الأعداء، أو الذين يعملون من أجل أوطانهم وأولئك الذين يعملون ضدها، وهنا تكمن إشكالية المشروع الذي أعمل عليه، ويعمل من أجله آخرون، فالمشروع من أجل مساعدة الشباب أن يبصروا ضوءاً في نفق المستقبل المظلم أمامهم، المستقبل الذي يُشاهدون تعاظم تحدياته، لكن لا يرون إلا هروباً من مواجهتها، وعزلاً لهم عن المشاركة في التقليل منها رغم أنهم هم المعنيون بالمستقبل والصعوبات التي سيحملها.

أنا من هنا.. وأنا هُنا مواطن، عايشتُ هذا العام الطويل الذي مرَّت فيه أحداث كبرى، وشاهدت فيه مجتمعات الخليج في هلع كبير جراء التقشف الذي طال جوانب كثيرة من حياتها، واضطرت لأن تدفع جزءا من تبعات عدم الاستعداد لهذه التحديات التي تركت لكي تتفاقم في هذه المجتمعات الصغيرة التي لا حدود لثرواتها، ولا حدود لهدر المال العام فيها، من هنا شاهدت رفع شعارات التقشف، وسمعت الكثير من التبرير لها، من هنا سمعت لأول مرة بصورة جدية أن "المواطن" شريك أساسي في مواجهة التحديات، ولم أسمع أن المواطن من قبل حظي بهذا الشرف الكبير، في الاعتراف بدوره بتحمل مواجهة أزمة اقتصادية وهو المخلوق الضعيف في هذا الخليج الذي كل شيء فيه قابل وممكن إلا أن يطلع هذا المواطن على شيء مهم، وهو أين تُصرف ثروات بلده، لا حق له في التساؤل، فالسؤال مُحرَّم في هذه الزاوية.

أنا من هنا.. وأنا هنا مواطن، ولأول مرة أجد أن المواطنين في الخليج الذي كانت تأتيه عوائد البترول من كل مكان، يتابعون بترقب كبير النقاشات حول الموازنة العامة لدولهم، وكانوا فيما مضى لا يعرفون متى تبدأ الموازنة ومتى تنتهي، ولا كم اعتمد فيها، لا يعنيهم ما تنفقه الدولة، وفي ماذا تنفقه، لكني اليوم أتابع الموازنة التي سوف تتناقض عاما تلو الآخر، وسوف أتأثر بذلك التناقص، وأتحمل أعباء وضغوطات كثيرة نتيجة ذلك، كان من الممكن أن لا أتحملها، لو استُثمرت العوائد من قبل بشكل جيد، ولكن الكل يقول ما مضى أغلق النقاش حوله، ولا يمكن استرجاع أي شيء تم إهداره من ثروات، وعلي أن أدفع لأنني مواطن، ولابد أن أقف مع بلدي لأن بلدي وقف معي، وأنا مدين له، ولم أفهم كيف يصبح المواطن مديناً؟ وكيف يمكن أن تبنى أوطان بمبادئ الجميل ورده، والدين وسداده، في حين يجدر أن تقوم على أساس المواطنة المبني على الحق والمساواة وتكافؤ الفرص، واحترام القانون، وصيانة المال العام، فلا يأخذ أحد أكثر من حقه، ولا يُطالب أحد بأن يدفع أكثر من قدرته.

أنا من هنا..وأنا هنا مواطن، شاهدتُ أنه رغم جدية التحديات التي تقود إليها مرحلة انخفاض أسعار النفط، ليس على الحياة الاقتصادية ولكن على الحياة الاجتماعية؛ حيث يتزايد عدد الشباب الباحثين عن عمل ويتركون بدون فرص للمشاركة في بناء أوطانهم، لم أشاهد تطبيقات جدية لشعار "التقشف" الذي رفع على مدار العام، ففي الوقت الذي ضيقت فيه الموازنات على جوانب ذات أولوية تعليمية وبحثية واجتماعية، ووسعت في جوانب أخرى غير ضرورية، شاهدت ذلك على أكثر من صعيد، وفي أكثر من بلد، وعايشت ما معنى أن تطبع بطاقات دعوة فاخرة في زمن التقشف، وعايشت كيف تم منع مكافآت بسيطة لأعمال ذات قيمة يقوم بها موظفون بسطاء، أنا من هنا شاهدت كيف أنَّ الخطة الأساسية لمواجهة هذا التحول الكبير هي التكيف مع الواقع، وزيادة ما يدفعه المواطنون، وليس الخطة هي إعادة التقييم والبناء والتخطيط الجدي للمستقبل الذي لا يتوقع فيه أن ترتفع أسعار النفط مرة أخرى.

أنا من هنا...وأنا هنا مواطن، أرى في هذا المشروع البحثي أنَّ الشباب هم الأمل الاقتصادي لهذه الأوطان، فعلينا أن لا نضاعف في العام المقبل عدد الخريجين الذين يجلسون في المقاهي والشوارع بدون عمل، في الوقت الذي تتوسع فيه بلداننا في فتح فرص للقادمين من خلف الحدود، لن يفهم أحد في العالم هذه المعادلة التي تعيشها هذه المجتمعات، يتم الصرف بسخاء على تعليم الشباب، وحين يتخرجون يتم تجاوزهم وتمنح أي فرص عمل لغيرهم، هذا سيقود إلى عملية تهميش اجتماعي واسعة النطاق سيكون لها تداعياتها، سيما في ظل الاضطرابات التي تعيشها المنطقة من حروب وصراعات وطائفية، فهل سيترك الشباب لقمة سائغة لهذه القوى وهو الثروة الباقية التي يمكن أن نستثمرها في النهوض بمجتمعات تعتمد على المعرفة والابتكار والريادة؟!

أنا من هنا.. وأنا هنا مواطن، قبل أن يرحل العام أرى أن تعزيز المواطنة قد يكون تأخَّر كثيرا، مما وسع الفجوات بين المواطنين في الحظوظ والثروة، ولكن يظل هو المفتاح لأي تنمية اقتصادية، ولأي استقرار سياسي، ولأي فوائض يمكن أن تحقق في هذه البلدان، مشكلة انخفاض الموازنات ليست انخفاض العوائد، ولكن المشكلة المسؤولية في الحفاظ على الثروات الوطنية، والأمانة في إنفاقه، والرقابة على ذلك، والترشيد في استخدامه، إنها حالة الانتماء الجماعية التي نفتقدها والتي لها دور كبير، هذا الانتماء الذي يجعل الجميع يبادر وبمسؤولية لسد أبواب الإسراف من المال العام، فلا المسؤول الكبير يشترك على حساب المؤسسة لشراء مجلة قيمتها أكثر من خمسة عشر دولاراً، ولا المواطن الصغير يخرج من مسجد وكل الإضاءات وأدوات التكييف تعمل، لا لشيء إلا لأنَّ الوزارة المعنية ستدفع لذلك، ولا المؤسسات تقيم حفلات عشاء أو غداء فاخرة على حساب الموازنة.

أنا من هنا.. وأنا هنا مواطن، لا أحلم أن يكون العام المقبل الذي تقام من أجله كل هذه الاحتفالات أفضل من العام الذي سيرحل؛ لذلك أتشبَّث به وأعمل لآخر دقيقة فيه، وسنذكر خلال الأعوام المقبلة أنْ لا عام أفضل من العام الحالي رغم كل ما جرى فيه، ليس هذا تشاؤما كما قد يفسره البعض، لكن التفاءل يحتاج لعمل دوؤب لم نبدأ فيه بعد، ويحتاج إلى تضحيات لا يبدو أننا مستعدون لها، ويحتاج إلى انتماء وطني لا أرى أننا قريبون منه، ويحتاج إلى الاقتراب من المواطن أكثر، والجلوس معه في عالمه الذي يبدو أن لا أحد يريد أن يعرف عنه شيئاً، ومع ذلك يطالب بأن يكون هنا وهناك، يتحمل كل صغيرة وكبيرة يمكن أن تقود إليها الأوضاع الاقتصادية.