قنبلة بين أيدينا

 

 

زينب الغريبيَّة

تطوَّر الهاتف كبقية الأجهزة التي أتت عليها التكنولوجيا، وأصبح جهازا ذكيًّا به مجموعة من البرامج تحملك لعوالم افتراضية مُتنوعة، وتقدِّم لك خدمات سريعة، بإمكانك أن تُتمِّم أي معاملة به، وأن تشتري ما تريد من متاجر من بلدان بعيدة، وتطلب وجبتك عبر الإنترنت من المطعم في آخر الشارع الذي تسكن فيه، بدلا من أن تمشي لتأخذها، بل وتراسل أشخاصا معك في نفس البيت لأنك لا تستطيع أن تصعد سلم المنزل كي تناديهم.

ربما يُعدُّ الهاتف اليوم من أهم الأجهزة التي مرَّت على الإنسان، والذي قد لا يستغني عنه أي فرد قادر على اقتنائه، أو يقتني ما يناسب قدراته المالية من أنواع، ولا يمكن أن يستغني عنه من تعامل به، فقد سهَّل أشياء كثيرة من أمور الحياة، فأنت تحجز رحلتك في الطائرة وغرفتك الفندقية في البلد الذي ستسافر إليه، وتنظم جولتك السياحية أو العملية من تطبيق بهاتفك، تقرأ القرآن منه، تقرأ كتابك منه، تخاطب أهلك من بلدان بعيدة بتكلفة أقل بكثير بتطبيقات عبر الهاتف النقّال، والكثير الكثير التي ربما لن تحصى من برامج الهواتف الذكية التي تتطور كل ثانية -إذا جاز التعبير.

ولكن ما يعتري الهاتف النقّال كجهاز هي المخاوف التي تعتري التقدم التكنولوجي لا سيما التأثير على الناحية الأخلاقية والسلوكية للأفراد المستخدمين، حقيقة هذا ما استدعى كتابة مقالي هذا، فما نشاهده من سوء استخدام للهاتف بعبثية مفرطة في كل مكان في المستشفى في السوق، في الشارع، وداخل السيارة، وفي البيت، وفي الجامعة والكلية، وحتى في المدرسة، شيء يبعث على الأسى، فما بقي من خير في أجيالنا لن أبالغ إذا قلت أخشى من أن يغتاله الهاتف النقّال.

دخلتُ ذات يوم على غرفة انتظار النساء في أحد المستشفيات، وبها ما لا يقل عن 30 امرأة 90% منهن مشغولات بالهاتف، 10% من النساء المتبقيات هن كبيرات السن، اللاتي لا يتقنّ القراءة والكتابة، وما يزيد الأمر سوءاً: فيمَ يُستخدم هذا النقال كل هذه الفترة؟ وفي هذه المرحلة العمرية من البنات الصغيرات في سن العشرينات وأقل من العشرين؟ وفيما يشتغل الشباب الصغار في هواتفهم في الأسواق والشوارع والأماكن العامة؟ وما يسبب معظم حوادث السير لدرى الشباب، ويهدر الأطفال الصغار الوقت في الألعاب التي لا تزيدهم إلا تبلدا من كثرة التركيز فيها، هل يستغل طلاب الجامعة تلك الهواتف في البحث والقراءة؟ أم فيما يستخدمونه لساعات طويلة ومتواصلة؟ كم يهدر في ذلك من الأموال؟ والصحة؟ والزمن من عمر الإنسان؟ هل يراد باختراع تطوير مجال وتسهيل أمور، ويتحول مجرى استخدام ذاك الإختراع لأمر مدمر، بسبب الفوضى واللامبالاة من الأسر، والمجتمع، ومن البعد عن ثوابت ديننا الذي يدعو إلى الاتزان في التعامل مع كل معطيات الحياة.

كَمْ من بيت قد هُدم من وراء تلك الهواتف، فقد غزى حتى استقرار الأسر، بسبب العلاقات التي تتم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي من باب الصداقة والمعرفة، وتتطور الأمور بعدها لما هو أبعد من ذلك، وكم من طفل أصبح فريسة للأمور المتناقلة الضارة أخلاقيا، عن طريق صديق، أو من استغله عن طريق أحد وسائط التواصل الاجتماعي، فكم من أمور تعرض عليهم تخدش براءة طفولتهم، مما يجعلهم يكتشفون تلك العوالم في سن مبكرة، غير مدركين إلى ماذا سيقودهم ذلك، ونحن نقدم لأبنائنا الهاتف كهدية لنجاحهم الذي ربما لن يدوم بسبب تلك القنبلة التي وضعناها في أيديهم بحجة "أن كل أصحابي عندهم تليفون".

رُبَّما لن يسعني هنا وصف خطورة دور الهاتف النقّال في غزونا في عقر دورنا، بل وفي غرف أبنائنا، حتى إننا لا نعلم أن ابنتنا أو ابننا غير نائم تحت غطاء سريره، بل يعيش في عالم بعيد عن مكانه الذي يستلقي عليه، بل ويشكل عقله ويوجه سلوكه، هل نحن بذلك راضون عمّا نصنع بأبنائنا فلذات أكبادنا، هلى نحن نضعهم على الطريق الصحيح بقلة الرقابة، ووضع الثقة الزائدة بين أيديهم؟ هل نحن نصنع لهم المستبقل بعناية؟ هل نستحق بذلك أن نكون آباء وأمهات؟

أصبح الهاتف النقال مظهراً اجتماعيًّا، يتباهى به الشباب والأطفال أمام أصدقائهم وأقربائهم، والتنافس فيمن يقتني أحدث إصدار من الشركة الفلانية أو الأخرى؟ ونحن نسعى لسد فجوات النقص لدى أبنائنا، فلا يمكن أن نجعلهم أقل من غيرهم، فنحن نستطيع توفير كل شيء لهم، غير مُبالين بما يحمله هذا الجهاز، وكيف سيتعاملون معه؟ هلا وقفنا سويا لنعيد النظر في هذا الموضوع؟ هلا تعاونَّا جميعا من أجل أن يكون أطفالنا متساوين فلا أحد منهم يملك هاتفا.. فهو جهاز للكبار الراشدين؟ هلا أحكمنا الرقابة على بناتنا اليافعات ممن هن في الجامعات والكليات؟ هلا يسمعني أحد فيقول معي: "لا نقَّال لليافعين والأطفال"؟